للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الماء الذي غمس القائم من النوم يده فيه]

قال رحمه الله تعالى: [أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل].

مثلاً: عندك ماء يسير تريد أن تتوضأ منه لصلاة الفجر، فقمت لصلاة الفجر، وإذا بالماء في إناء -والإناء هو المفتوح، بخلاف الإبريق الذي يكون مغلقاً، فمحل الكلام في الإناء الذي تغترف منه كالقدر- وأردت أن تغترف منه، فالسنة الواردة في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) فتمسك بالإناء وتميله قليلاً إلى كفك، ثم إذا ملأت الكف بالماء غسلت كلتا اليدين الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فتطهر يداك، ثم بعد ذلك تغترف للمضمضة والاستنشاق، وتغسل بقية الأعضاء، لكن أن تأتي وتدخل يدك إلى الإناء مباشرة فهذا منهيٌ عنه.

وبناءً على ذلك قال بعض العلماء من السلف وغيرهم: علة النهي أنهم كانوا في بلادٍ حارة، وكان الناس لا يعرفون عند قضاء الحاجة الغسل بالماء، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، فربما عرق الإنسان أثناء نومه فجالت يده فأصابت العرق المتنجس في الموضع، وربما أصابت العضو، أو أصابت نجاسة خارجة من العضو، فنهى الشرع عن إدخال اليد في الإناء حتى لا يفسد الماء.

وبناءً على ذلك فعندنا مسائل في المستيقظ من النوم: أولاً: لا يجوز له أن يدخل يده في الإناء حتى يغسلها، والغريب أن بعض الأطباء يقول: ثبت طبياً أن أكثر حالات الرمد -هذا المرض المعروف الذي يصيب الصغار- سببها أن الأطفال يستيقظون من النوم، فيجعلون أصابعهم في أعينهم قبل غسلها.

وهنا تظهر حكمة الشرع، فإنه إذا انتقلت النجاسة إلى الإناء والإنسان في الوضوء يرفع الماء إلى وجهه لغسله فربما كان ذلك طريقاً لأذية البدن أو حصول الضرر، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

وقال بعض العلماء: بل أبلغ من ذلك معجزةً أن الشرع فيه أولاً أن تتمضمض ثم تستنشق ثم تغسل وجهك؛ لأن الماء إذا كان فاسداً أدركت فساده بالذوق، فإن عجز الذوق أدركته بالشم؛ مع أن العين أشد حساسية من الأنف، والأنف أشد حساسية من الفم، إلا أنه ثبت طبياً أن في الفم من أجهزة المناعة أضعاف ما في الأنف، وفي الأنف أضعاف ما في العين، فهذا من أبلغ ما يكون في حكمة الشرع في مسألة غسل اليدين للمستيقظ من النوم.

وبناءً على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن غمس اليد في الإناء، على مذهب من يقول: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، يتفرع على هذا القول أن السطل الذي دون القلتين لو غمس القائم من النوم يده فيه شككنا فيه: فيحتمل أن فيه نجاسة ويحتمل أنه ليس فيه نجاسة، فقال: هو طاهر وليس بطهور؛ لأن النجاسة مشكوك فيها، فقال: نجعله طاهراً لا يتوضأ به ولا يغتسل، ولا نقول: هو نجس؛ لأننا لم نتحقق من النجاسة، ولا نقول: هو طهور، لأنه لم يبق على أصل خلقته، هذا هو وجهه.

قوله: (من نوم ليل).

وحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) للعلماء فيه أقوال: بعض العلماء يقول: لا يجوز إدخال اليدين في الإناء من نوم الليل والنهار، وهو مذهب الظاهرية.

ومنهم من يقول: لا يجوز إدخالها من نوم الليل خاصة، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من المحدثين.

ومنهم من قال: باستحباب غسلها كما هو مذهب الجمهور.

والصحيح مذهب الظاهرية، أن النهي على العموم، والذين يقولون بتخصيص نوم الليل -كما درج عليه المصنف- يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، والبيتوتة لا تكون إلا بالليل فقالوا: الحكم يختص بنوم الليل دون النهار.

والصحيح أنه يشمل نوم الليل والنهار والحكم معمم، والسبب في ذلك أن قوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) خرج فيه النص مخرج الغالب، والذي خصه بالبيتوتة بنى على مفهوم الحديث، والقاعدة: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، وهي مسألة أصولية، وحبذا لو يرجع إلى شرح عمدة الأحكام، فقد ذكرت فيه أقوال العلماء وأدلتهم والراجح من تلك الأقوال بدليله كما ذكرنا.

فالمصنف رجح أن غمس اليد في الإناء قبل غسلها لا يجوز من نوم الليل دون نوم النهار، والشرط أن يكون النوم موجباً للوضوء؛ لأن النوم إذا كان يسيراً لا يوجب الوضوء؛ لأنه لا يزول به الشعور، فالشخص في هذه الحالة يدري أين باتت يده، بخلاف ما إذا زال الشعور، فيحتمل أن تجول اليد إلى مكان فيه نجاسة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>