للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تزاحم العبادات]

السؤال

أحياناً تزدحم على طالب العالم بعض الأمور المختلفة، كزيارة الرحم وطاعة الوالدين وما لديه من دروس، فكيف يتعامل مع هذه المهام بالطريقة المثلى أثابكم الله؟

الجواب

هذا سؤال يحتاج إلى نظر، أولاً: من حيث الأصل يقدم الواجب على غير الواجب، فبر الوالدين فرض، وهذا الفرض مقدم على غيره من حقوق الآخرين، فإذا سألك والداك، أو احتاج الوالد منك أن تأتي عنده في القرية، أو في المزرعة أو التجارة، فعليك أن تقدم هذا الواجب، وتتقرب إلى الله عز وجل بذلك.

إذاً: الواجبات تقدم على غير الواجبات، مثل شخص أو جماعة دعوك في سفر لعمرة أو للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، تقول: الدعوة مستحبة وبر الوالدين واجب، والواجب مقدم على المستحب.

إذا ازدحمت الواجبات قُدِّم الآكد على غير الآكد، فمثلاً: إذا نظرنا إلى حق القريب نجده من حيث الأصل حق واجب على المسلم أن يصله، هذا القريب قد يكون مريضاً يحتاج أن تكون معه، أو جاءته ضائقه أو ظرف يريدك أن تكون معه، وهناك مثلاً صديق عنده ظرف ويحتاج أن تكون معه، فإذا نظرت وتأكد عليك أن هذا الصديق ليس له غيرك والقريب ليس له غيرك بعد الله عز وجل، فحينئذٍ يقدم الحق الآكد وهو حق القريب، فتقدم حق القريب ثم الأقرب فالأقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أدناك أدناك) فجعل الحقوق مرتبة، والله عز وجل جعل لكل شيء قدراً.

فالمسلم ينظر دائماً للحقوق المؤكدة، فالفضائل والمستحبات والمندوبات يقدم فيها المتعدي على القاصر، وهذه قاعدة في التفضيل، وكما ذكرنا في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد قيس، فإنه يقدم الشيء الذي لا يمكن تداركه، مثلاً: لو كان عندك أثناء الإجازة أشياء لو أخرتها لم يمكن تداركها، وأشياء من المستحبات لو أخرتها عن الإجازة أمكن تحقيقها في غير الإجازة ولو بعض الشيء، فتقدم الذي لا يمكن تحقيقه بعد الإجازة مطلقاً على الشيء الذي يمكن تحقيقه بعد الإجازة بعض الشيء.

هذه كلها أمور لها قواعد وضوابط إذا ازدحمت؛ كأن تكون كلها علوماً، وهذه العلوم لا تدري هل تذهب لهذه الحلقة أو إلى هذه الحلقة أو هذه الحلقة، فإذا كانت الحلقة في علم يحتاج إليه كأن تكثر أخطاء الناس فيه، أو كان عالمه يضبطه أكثر أو يتقنه أكثر، أو كان لا يتيسر لك في غير الإجازة، فتقدم بهذه الوجوه، وتراعي التفضيل من هذه الوجوه، وهذا ليس خاصاً بالإجازة، فهذه أصول عامة، وعند العلماء مبحث في التفضيل تكلموا عليه في كتب القواعد الفقهية في قواعد التفضيل.

فعلى كل حال، تقدم الأشياء الواجبة على الأشياء المندوبة والمستحبة، وتقدم الواجبات المؤكدة على الواجبات غير المؤكدة، ويراعي في هذا كله النية الصالحة، أعني: أن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا انشغالك بهذا الشيء لفعلت ذلك الشيء، حتى تؤجر بعملك ونيتك، وجمع الخير كله تقوى الله عز وجل وسؤال العلماء.

فينبغي لكل إنسان أن يرجع إلى أهل العلم: (وما خاب من استخار ولا ندم من استشار) فالذي يسأل أهل العلم ويرجع إليهم في الأمور الشرعية لا شك أنه سيكون على بصيرة من أمره، ويوفق ويسدد.

ومن العجيب -وليس هذا من الله ببعيد- أنك عندما تستشير أحداً من أهل العلم، فيشير عليك بمشورة، أن الله يجعل البركة فيما أشار به، إن عاجلاً أو آجلاً أو هما معاً، ومن أراد فليجرب.

فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى خاصة إذا رزق من يستشيره العقل، فإذا ازدحمت عندك الأمور فإن كانت شرعية فارجع إلى أهل العلم، وإذا كانت أموراً دنيوية فارجع إلى أهل العقل والأمانة، فإنهما شرطان لابد من توفرها فيمن تستشير.

فالذي عنده عقل أبعد منك نظراً، وأعرف منك في الحظوظ والمفاسد والمصالح، وكذلك وأما الأمانة فلأنه قد يكون عاقلاً فاهماً لكن لا أمانة عنده، وليس عنده نصيحة.

فإذا رزقك الله عز وجل استنارة العلم والعقل، فإنك موفق، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: من الناس من رزق العلم أكثر من العقل، فعنده علم كثير لكن عقله صغير، ومنهم من رزق عقلاً أكثر من العلم، فعقله أكبر من علمه، وهذا موجود في الناس، وبعض الناس طالب علم علمه قليل، إلا أن عنده من رجاحة العقل وبعد النظر الشيء الكثير، وهذه هبة من الله عز وجل، ومن الناس من جمع الله له بين الحسنيين: العلم والعقل، فهذا خير المنازل وأفضل ما يكون.

فإذا أراد الإنسان أن يستشير فإن كان لأمرٍ ديني فلا إشكال أنه يرجع إلى أهل العلم، وإن كان في أمر دنيوي فإنه يرجع إلى من هو أعقل: شاور أخاك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة فتستشير العاقل الحكيم الذي تأمنه على دينك وعرضك وأهلك.

وهنا ننبه على مسألة مهمة جداً، وهي أن بعض طلاب العلم تنزل مسائل شرعية، فيأتي شخص ويقول: والله ما أدري أفعل كذا أو كذا والدي يأمرني! والدتي تأمرني! أو كذا، أمر يتعلق بالدين، فتجد هذا يعطيه رأياً، والآخر يعطيه رأياً.

والمنبغي على طالب العلم ألا يفتي في المسائل الشرعية إلا إذا كان أهلاً، فالعجب أنك تسمع بعض طلاب العلم يجيبه ويعطيه قاعدة وأصلاً، يفتي ويُنظِّر ويقعد ويستدل وهو ليس بأهل لذلك، فلا يتقحم المسلم النار على بصيرة، هذه نار الله الموقدة، القول على الله بدون علم، حتى في الرأي يجب ألا تستهين بهذه الأمور، فلا تأتِ لأخيك بأمر شرعي ولو في طلب العلم، فتقول: افعل كذا واترك كذا يا إخوان! تحسبوه هيناً وهو عند الله عظيم.

الأمور الشرعية تناط بأهل العلم، ويرجع فيها إلى أهل العلم الذين هم أعلم وأحكم، فنحن نقول هذا لأنه يأتينا بعض الأخيار ويقولون: قال لي بعض طلاب العلم: لا تفعل كذا! وافعل كذا! وبعضهم يقول: إن فعلت كذا أثمت! فهذا لا يجوز، فإن تحليل الحرام كتحريم الحلال.

والمنبغي الرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليه من أهل العلم وتقوى الله عز وجل.

وعلى كل شخص يستشيره أخوه أو يشاوره أن ينصح له، وخاصة إذا أراد الإنسان أن ينصح فيستنصح الأخيار والأتقياء.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشداً، وأن يسلك بنا أفضل السبل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>