للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه]

السؤال

إذا كانت حياة المريض ميئوسة وطلب من الطبيب أن يقتله، فهل يجوز طلب ذلك؟ وهل يلحق الطبيب شيء من التبعية إن فعل ما طلب منه؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير، خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فهذه مسألة خطيرة جداً، وهي التي يسمونها: مسألة قتل الرحمة، ولذلك -والعياذ بالله- من غرائب هذا الزمان أن الحرام في هذا الزمان لا يسمى باسمه؛ بل يصدق عليه قول الله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت:٣٨]، وهذا من تزيين الشيطان لعصاة بني آدم، فهناك قتل يقولون عنه: قتل الرحمة، ويسمونه بهذا الاسم، وصدق عليهم قول الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١].

وهذا القتل الذي يسمونه بقتل الرحمة يكون المريض ميئوساً من علاجه، فيقولون: لماذا يتعذب؟ يعطى إبرة تقضي عليه فيرتاح من عذاب المرض، ومن آلام المرض، وهذا لاشك أنه اعتداء وقتل عمد، وسيأتينا -إن شاء الله- في مسألة القتل بالسم، فحقن المواد السامة في جسم الإنسان التي يقتل مثلها يعتبر قتل عمد، والطبيب إذا فعل ذلك فإنه يعتبر قاتلاً، وللعلماء كلام في مسألة من قال لغيره: اقتلني، فإذا قال لغيره: اقتلني، فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكرهه على قتله، فيقول له: إن لم تقتلني سأقتلك، ففي هذه الحالة لا قصاص ولا دية على القاتل؛ لأنه في هذه الحالة هدده، وله الحق أن يدفع عن نفسه، ولم يستبح نفساً محرمة، وسقط القصاص لوجود الإذن بالقتل، وسقطت الدية لأنه مستتبع لحكم القصاص، كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات، في مسألة: إذا طلب من الغير أن يقتله.

وعلى كل حال: هذا القتل لا يجوز، وقد قالوا: إنما ذلك لأجل أن الشخص يتعذب بالآلام، بل توسع الأمر إلى درجة -والعياذ بالله- أنهم نظروا في الأشخاص المتخلفين عقلياً، ووجدوا أنهم عبء على أهليهم وعبء على ذويهم، فيحقنونهم بمواد تقضي عليهم، وهذا لاشك أنه من الاعتداء على حدود الله عز وجل، والإنسان وصفه الله عز وجل وقال: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢]، وهناك قاعدة يضعها طالب العلم بل يضعها كل مسلم نصب عينيه، وهي أن الطب له جانبان إن خرج عنهما فليس بطب، ولا تأذن له الشريعة أبداً: الجانب الأول: علاج الأسقام ومداواة الجروح ونحو ذلك، وهو إصلاح الفاسد في الجسد.

الجانب الثاني: بذل الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في المرض والسقم، وهو الذي يسمى بالطب الوقائي، فالأول يسمى: الطب العلاجي، والثاني يسمى: الطب الوقائي، فإن فعل الطبيب أي فعل في الآدمي خارج عن العلاج، أو خارج عن الوقاية؛ فهذا ليس بطب، وقد خرج عن رسالة الطب، وخرج عن الإذن الشرعي بالطب.

فإذا قال: إن هذا مريض يتألم ويحصل له كذا وكذا، فنقول له: أنت طبيب تداوي، فإن أمكنك أن تداوي بذلت ما في وسعك، وإذا لم يمكنك أن تداوي فلا تدخلن بين المخلوق والخالق، فإن هذا ليس إليك، ولست أنت الذي ترحم، وليس بيدك الرحمة، إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء، ولا تكن كمن قال الله فيهم: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:١٦]، فلست أنت الذي تعلم الله من هو الذي يُرحم والذي لا يُرحم.

ارحم بشيء تملكه، وشيء لا تملكه ليس من صنعك، وقد تكون هناك درجات من درجات العلى في الجنة جعلها الله لولي من أوليائه بعذابه في المرض والسقم، وقد يجعل الله عز وجل في قرارة قلبه من اليقين ما يتلذذ به بهذا السقم والمرض، وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وبعض السلف لما مرض في الطاعون كان يقول: (اطعني فوعزتك وجلالك إني لأتلذذ بما يصيبني منك)، وهذه هي منزلة الرضا عن الله عز وجل.

فلست أنت الذي تتدخل بين المخلوق والخالق، فهذه أشياء لا دخل للإنسان فيها، وليست من رسالة الطبيب، فإن حدود الطبيب محصورة، والله عز وجل بعزته وجلاله وقدرته وعظمته وكماله جعل كل شيء لغيره محدوداً قاصراً، فمهما بلغ من القوة ومهما بلغ من المنزلة في العلم والإدراك للأشياء، فإنه يقف عند حد معين، ليقف ذليلاً أمام عزة الله جل جلاله، مهاناً أمام كرامة الله، يقف مكتوف اليدين أمام الله الذي علَّمه، وعندها يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة، ولذلك مهما تقدم الطب فسيصل إلى درجة لن يستطيع أن يتقدم عندها؛ لأن الله قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، وسيقولون: إن هذا لا علاج له عندنا، لكي يعلم كل أحد أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشفي من المرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك).

هنا تظهر عظمة الله عز وجل، فيعيش المريض يئن ويتألم في المستشفى، والأطباء واقفون، حتى يدخل كل شخص إلى المستشفى فيعلم أن الطبيب لا يملك له مثقال خردلة ولا أقل من ذلك من دون الله عز وجل، فهذا كله فيه أسرار وحكم، ولكن الذين كفروا لا يعقلون.

وهذه أشياء ما كان يعرفها المسلمون، فما كان المسلمون كلما مرض مريض حقنوه بحقنة وقضوا عليه، ما كانوا يفعلون هذا أبداً، ولكن بحكم الاتصال بالكفار وسهولة المعرفة كما يقولون، أصبح شيئاً مألوفاً، وإلا فالمسلمون يعرفون الرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، ويعيش المريض ويأتي شخص ويقول لك: هذا المريض جالس عند أهله سنة أو سنتين وقد عذبهم وما يدريك أن هذه السنة والسنتين كم أصلحت من قلب كان فاسداً، وكم قومت من شخص كان معوجاً، وكم سددت من شخص كان تائهاً بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، فقد يعيش مريض في البيت ويئن ويتألم فإذا بالشاب السوي القوي يتذكر أنه إذا شاب وهرم سيئول إلى هذا المآل، فيخاف من معصية الله عز وجل.

فهناك حكم وأسرار كثير من الناس لا يعقلها ولا يعلمها، وأشياء لا يتدخل فيها الإنسان، أما الطب فله حدوده إذا رأى مفسدة أن يزيلها، أما حكم ومصالح ذلك المرض فلا يعلمها إلا الله عز وجل، والله أرحم بخلقه من خلقه بأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).

المقصود: أن هناك حدوداً ينبغي الوقوف عندها، وإذا خرج الطب عن هذه الأمانة والمسئولية من مداواة الأجساد، ووضع الأسباب، والحيلولة بين الأجساد والأسقام بقدرة الله عز وجل؛ فإنه ليس بطب، وإنما هو العبث، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يزن الطب بهذا الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء)، وقال في الحديث الآخر: (علمه من علمه وجهله من جهله).

فنحن نقول: لا يجوز هذا الأمر، وهو حقن المريض بما يؤدي إلى موته، ولو كان مرضه ميئوساً منه، ولو كان قد استنفذت مقاتله، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز للطبيب ولا يجوز لأولياء المريض ولا للمريض أن يأذن بهذا الأمر الذي لا يحله الله ولا رسوله، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>