للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به]

شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطاً بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل).

وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصاً، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يُقتص منه، فلا يوجب قوداً، ويوجب الدية إجماعاً، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعاً عند من يقول بهذا النوع.

وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد.

وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.

والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا)، وكذلك أيضاً يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصاً، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد.

وقد سمي شرعاً بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطاً بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصاً، وصار وسيطاً بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات.

فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالباً، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدراً فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>