للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الجمع بين شرعية المماثلة في القصاص تحريقاً وبين النهي عن التعذيب بالنار

السؤال

إذا قلنا بالمماثلة في القصاص لو قتل بالتحريق، فكيف يجمع بين ذلك وبين النهي عن التعذيب بالنار؟

الجواب

لا تعارض بين عام وخاص، فالنهي عن التعذيب بالنار عامٌ، والمماثلة في التحريق قصاصاً خاصة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦]، فهذه مسائل مستثناة، والفقه أن تنظر إلى الأصول العامة وما استثني منها، فتجعل الأصل العام كما هو، وتبقي المستثنى على استثنائه، وبهذا تكون عملت بشرع الله عز وجل وطبقته، فالله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦].

فالنهي عن التحريق نهيٌ عن عقوبة مبتدأة وعقوبة منشأة، فلا ننشئ العقوبة بالتحريق، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكن هذا أخذٌ بالجناية والجريرة، وأمرنا الله عز وجل أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ينهى عن التمثيل، وقال لأميره على السرية: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخاً ولا صغيراً ولا امرأةً، ولا تمثلوا، ولا تغدروا)، فقوله: (ولا تمثلوا)، نهي عن التمثيل بالقتلى، ولما خرج العرنيون إلى إبل الصدقة، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا المسامير من النار فسملوا بها عين الراعي، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل بهم مثلما فعلوا بالراعي، فسمل أعينهم، وفي رواية: (سمل وسمّر)، والله تعالى يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦]، فهذه أمور وأحوال مستثناة لوجود الموجب بصفائهم.

وبناءً على ذلك: يجوز في هذه الحالة أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، ومن باب المماثلة ما يوجد الآن عندنا من الأكسيد -أعاذانا الله تعالى وإياكم- والمواد الحارقة، والمواد الكيماوية، حيث يؤخذ المقتول ظلماً ويصب على رأسه وبدنه من هذه المواد، أو يربط ويقتل بأبشع الصور، فيؤخذ مثل هؤلاء المجرمون ويوضعون أمام الناس، ويفعل بهم مثل ما فعلوا بالمجني عليهم، ليكون فيه من الزجر والردع، خاصة في هذه الأمور من القتل الذي توسع فيه بعض الناس، وفي الجرائم المنظمة، فهذا لا شك أنه يردع، ويكون وقعه في النفوس بليغاً، فالجاني يكبت بجنايته، ومن تسول له نفسه ذلك يرتدع عن الإقدام في فعله، وهذا هو مقصود الشرع أن يرتدع الناس، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩]، قالها أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، بل الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، فإذا اقتص من الجناية بمثلها، أياً كانت هذه الجناية ما لم تكن محرمة، فلا إشكال أن هذا أبلغ وأوجب في حصول المقصود شرعاً، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>