للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[آداب ونصائح لطلاب العلم مع إخوانهم]

السؤال

أنا من طلاب العلم، وأشتكي من بعض التصرفات من إخواني الطلاب، فما توجيهكم؟

الجواب

الدنيا كلها كدر، ولا بد من الصبر، ولا يفلح مؤمن في هذه الدنيا إلا بالصبر، فبالصبر تقوى نفسه، وتثبت عزيمته، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، فهل وجدت أحداً مرتاحاً في هذه الدنيا؟ وهل وجدت أحداً مطمئناً دون أن يجد منغصاً أو كدراً في هذه الحياة؟ قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤]، واللام جواب للقسم و (قد) للتحقيق، فقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، أي: في تعب وعناء، ولا يزال المؤمن من هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدمه الجنة فتتبدد عنه همومه وغمومه، ويقول إذا رأى نعيمها وسرورها ما قاله الله عز وجل حكاية عن أهلها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:٣٤].

أخي في الله! أوصيك أن تحمد نعمة الله عز وجل عليك، وأن تحس أن الله عز وجل يوم اختارك طالباً للعلم أنه قد أعطاك أحسن ما يُعطى بعد الإيمان بالله تعالى، وهو أن تطلب العلم، فإن زكوت واستقمت وصلحت سريرتك، وطابت سيرتك، وزكت علانيتك؛ بوأك الله مبوأ صدق في الدنيا والآخرة، ولن ترى من ربك إلا كل خير، فوالله ثم والله، ونشهد لله في هذا العلم بكل خير ورحمة، فما من أحد يطلب هذا العلم صابراً فيه لوجه باريه إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة، ولن تجد أحداً أسعد من أهل العلم وطلاب العلم لو شعروا بالسعادة.

أخي في الله! إن وجدت أذية أو ضيقاً، فاعلم أن العلم لا ينال بالتشهي، ولا بالتمني، ولكن بالعناء والنصب، وهذا التعب والنصب هو الذي ينزل الله به عبده مبوأ صدق في الدنيا والآخرة.

وقد قال الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فبهذه المشقات، وبهذه المنغصات، وبهذه المكدرات، تتبوأ الدرجات العلا في الجنات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).

ثم الأمر الثاني مما يهون عليك، ومما يوصَى به الإنسان، خاصة إذا أراد أن يطلب العلم: أن يعظم بعد الله عز وجل، وكتابه وسنة نبيه عليه عليه الصلاة والسلام أمرين، ويحبهما في الله عز وجل، ويعتقد هذه المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، أولهما: أهل العلم، فلن يفلح طالب علم في علمه ما لم يعظم أهل العلم، ولا يعظمهم تعظيم الغلو، وإنما يعظمهم في الحدود الشرعية، وأن يشعر أن الله عز وجل أعطاهم هذه الأنوار من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحبهم ويجلهم ويقدرهم ويوقرهم ويصبر على كل أذية منهم.

أخي في الله: قد يؤذيك طالب عالم، زميل لك-كما تشتكي أنت- تأتي تريد أن تسأل الشيخ -مثلاً- فيسبقك، وينافسك، ولكن هل تعلم من هو هذا الطالب؟ وهل تعلم من هو هذا المجد المثابر الذي تعلق قلبه بمحبة العلم فاستولى على مشاعره، فلم يلتفت إلى من عن يمينه أو يساره؟ ولو أن كل طالب شعر من هو طالب العلم الذي يرافقه، وشعر بحرمته في الإسلام، وشعر بحقه في طلب العلم؛ لهانت علينا كثير من التصرفات.

ومن المجرب أن الإنسان حينما يدخل مسجداً، ويعتقد أنه أقل الناس، وأنه أحقر الناس، وأنه أضعف الناس، حتى يرفع الله درجته، تهون عليه تصرفات الناس كلها، وعندها يرضى عنه ربه، ويعظم أجره، فهذا الطالب-طالب العلم- قد يكون في ذلك اليوم ترك أعز الأشياء عليه من ماله وولده وأهله، وجاء من أجل طلب العلم، فلا تستغرب منه أن يأتي كالبعير الهائج على الشيخ؛ لأنه ضحى بشيء كبير، وقد يكون أتى من مسافات بعيدة، وقد يكون ضحى بأشياء عزيزة عليه، فحينما تحس من هم طلاب العلم، وتحس من هذا الذي ضحى بوقته، وجاء تاركاً لأشغاله وأعماله؛ تحس أنه شيءٌ عزيز، وأنه شيءٌ غالٍ، ولو كان مرقع الثياب فقير الحال، فقد يكون عند الله أعظم منزلة من غيره، وربما كان لا يملك إلا قوت يومه، ومع ذلك يضحي في ركوب السيارة من أجل الوصول إلى الدرس، فلو أن كل طالب علم يستشعر أن إخوانه من طلاب العلم ضحوا، وأنه لم يضح، وأنه لم يقدم شيئاً؛ لأدرك أن طلب العلم شيءٌ كبير، ولصبر على تصرفاتهم وعذرهم وأحبهم، فتأتلف القلوب بهذا.

وكما أننا نوصي هذا الطالب بالصبر، فنوصي أيضاً طالب العلم أن لا يؤذي إخوانه؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، وأذية المسلم للمسلم محرمة، ولكنها لطالب العلم أعظم حرمة عند الله عز وجل، فانتبه واحذر.

إخواني! إن القرب من أهل العلم بلاء ومصيبة والله، وبعض طلبة العلم يظن أن القرب سهل، فربما يقترب طالب العلم من شيخ، ويبوء بسيئات لم تخطر له على بال؛ لأنه ربما تصرف تصرفاً ينفر أخاه من طلب العلم، وربما يتصرف تصرفاً مع الشيخ يكرهه في إفادة طلاب العلم، فهو سلاح ذو حدين، فإما إلى جنة، وإما إلى نار.

والله عز وجل قد نبهنا إلى هذا، فهؤلاء الصحابة الذين تبوءوا المقامات العلا من الجنة نزلت عليهم قوارع التنزيل، تأمرهم بالأدب، فصحبة النبي صلى الله عليه وسلم عزيزة غالية، ولكن لو رفع صوته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبط عمله-والعياذ بالله-، فتحبط صلاته وزكاته وحجه وعمرته، وهذا يدل على أن القرب من أهل الفضل والعلم خطر، فعلى الإنسان أن يتأدب في مسائله، ويتأدب في تصرفاته مع إخوانه، فلا يؤذِ أخاه ولا يضيق على إخوانه، كأن يستبد بالسؤال، فيريد أن يسأل وحده، ويريد أن يستشكل وحده؛ إذ قد يأتي إنسان عنده كربة في أمر زوجته؛ لأنها مطلقة، فلا يدري: أتحل له أو تحرم؟ وقد يأتي شخص مهموم مغموم يريد كلمة من الشيخ، فعلى القريب من الشيخ أن يعطي مجالاً لغيره، وأن يحذر من هذا القرب، وأن يعلم أنه خطر عليه، فكما أنه سبب في رحمة الله عز وجل فقد يكون سبباً في الخطأ والزلل والغرور، فعلى الإنسان إذا اقترب من أهل العلم، أو جلس في حلق الذكر أن ينتبه لمن حوله.

وعلى الذي يؤذي إخوانه أن يعلم أن أبناء المسلمين ما جاءوا إلى بيوت الله ليهانوا، وما جاءوا ليُذلوا؛ لأن بعض طلبة العلم قد يدفع أخاه، أو يحس أنه أحق من أخيه، وقد يأتي متأخراً، أو يأتي من آخر الناس، ويتخطى الحلقة ليجلس وسطها، فالناس لهم حقوق، ولهم حرمات، والمسلم -ولو كان من كان- له حرمة ينبغي أن تُحفظ ولا تُضيع، ومن حق المسلم أن يكرم ولا يهان، ويُرفع ولا يوضع؛ لأن الله أمرنا بإكرام المسلم.

فشيمة المسلم الموفق أن يستشعر هذا الشيء، وعلى كل طالب علم أن يحذر، ووالله من خاف سلم، ومن خاف في طلبه للعلم، وصحبته لطلاب العلم من أذية طلاب العلم، والإضرار بهم؛ فإنه يسلم بإذن الله عز وجل، فراقب نفسك في جميع تصرفاتك، ولا تزاحم، ولا تؤذِ، ولا تضر.

وهناك أمر لابد من إيضاحه، وهو أن طلاب العلم حين يزدحمون على الشيخ، تجد بعض الناس يستنكر هذا، بينما يرون على أفران الخبز أعداداً من الناس واقفة ولا يستنكرون، فهذا واقع وزمان أصبح المعروف فيه منكراً، والمنكر معروفاً.

فإذا جاء أناس يشترون رحمة الله عز وجل، وتركوا بيوتهم وأهليهم، وجاءوا حفاة الأقدام يلهثون وراء أهل العلم، ويلتمسون زاداً لهم لآخرتهم، فهل هذا شيء يستغرب؟! وإذا رأيت الناس في الدنيا يصيحون، ويهرجون، ويبهرجون، فهذا شيء لا يمكن أبداً أن ينكر؛ بل أصبح هذا من المسلمات والبدهيات؛ لأنه إذا ماتت القلوب فلا تسأل عن أحوالها.

ولذلك ينبغي علينا أن نستشعر مسئولية طلاب العلم أمام الله، فقد ارتحل العلماء، وذهب الأئمة، وخلت الساحة، وأصبحت المسئولية عظيمةً، والكرب عظيماً، والشكوى إلى الله تعالى.

فمثل هؤلاء ينبغي أن نهيئ لهم كل ما نستطيع، وكل ما نقدر عليه من أجل أن يطلبوا العلم، فنحبب العلم إليهم ولا نبغضه، ونرغبهم فيه ولا ننفرهم عنه، ونيسر عليهم ولا نعسر، وقد يحصل العسر بكلام؛ إذ قد يأتي طالب العلم فيسأل أسئلة لا داعي لها، وغيره أحوج إلى الأسئلة، فإذا رأيت طالباً أكثر منك ذكاءً، وأكثر ضبطاً، ويستفاد من أسئلته، فقدمه وآثره حتى تستفيد؛ ليكون هناك وعي عند القرب من أهل العلم، والجلوس في مجالس أهل العلم، والموفق من وفقه الله، فوالله ما زكت ولا صلحت سريرة عبد إلا أصلح الله علانيته ووفقه وسدده، وسيطلب العلم من يطلبه، فإما موفق سعيد يرزقه الله عز وجل المراقبة التامة لأقواله وأفعاله وتصرفاته وانضباطه، حتى يبوئه الله مبوء صدق بهذا، فيكون محل الرضا عند علمائه ومشايخه، ومحل الرضا عند إخوانه، وإما غير ذلك.

وستعاشر طلاب العلم -وهم الصفوة- فلتحتسب عند الله عز وجل أن يأخذوا عنك، فهؤلاء هم شهود الله في الأرض، فإذا شهد عليك طلاب العلم فهم أزكى الشهود، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن أولياء الله أهل العلم وطلبتهم فلا أدري من هو ولي الله؟! فهؤلاء هم الصفوة، فإذا عاشرتهم، وكنت معهم على المحبة, والصفاء، والمودة، والنقاء، وعلى المراتب العلا في الإيثار، والإخاء؛ بارك الله لك، وبارك في علمك، وبارك في وقتك، وما وجدنا من ربنا إلا كل خير، فقد وجدنا طلاب علم تأدبوا مع مشايخهم، وتأدبوا مع إخوانهم، فزكاهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ووجدنا من كان لا يبالي بطلاب العلم وكان فظاً غليظاً فعاقبهم الله تبارك وتعالى، وقد سألت عن بعض الزملاء طلابهم، فذكروا أنهم في الدعوة الى الله تعالى، وأنهم كذا، ثم سألتهم من بعيد عن أشياء، فإذا بهم يتذمرون، ويقولون: إن طلاب الشيخ يؤذونه، وإني -والله- أعرف أنه كان يؤذي المشايخ، وكذلك جزاءً وفاقاً، فما توفاني الله عز وجل حتى رأيت بعيني وسمعت بأذني سنناً لله لا تتبدل ولا تتحول، ولا يظن أحد أن الله غافل عن خلقه، فليحذر طالب العلم، فاليوم يزرع، وغداً يجني، فمن زرع الخير كان له.

فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا السداد في القول والعمل، إنه المرجو والأمل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>