للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أحكام وأقوال العلماء في قضاء الفوائت]

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتباً].

قوله: [يجب فوراً]: بمعنى أن تُبادر مباشرةً.

وقوله: (قضاء الفوائت) معناه أنه قد خرج الوقت، فإذا خرج وقت الصلاة لمعذورٍ ثم زال عذره، كأن يكون نائماً فأفاق بعد طلوع الشمس يجب عليه فوراً أن يصلي الصبح، وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: فقالت طائفةٌ من العلماء: إذا استيقظ الإنسان من نومه بعد خروج وقت الصبح، أو خروج وقت أي فريضةٍ، أو زال عذره، فإنه يجب عليه أن يبادر مباشرةً إلى فعل الفريضة، وإذا أخَّر وهو غير معذورٍ، كأن يكون استيقظ الساعة التاسعة صباحاً، وقد خرج وقت الفجر، فيلزمه مباشرةً أن يتوضأ، وأن يصلي الفجر.

فلو جلس إلى العاشرة بدون عذرٍ، قالوا: يأثم، وهذا مذهب من يقول: إن القضاء على الفور لا على التراخي، ولا يجوز له أن يتراخى إلا من عذر، وهو قول الجمهور.

وقال بعض العلماء: إنه إذا استيقظ الإنسان من نومه، أو كان معذوراً وزال عذره بعد خروج الوقت لا يجب عليه القضاء فوراً، وإنما يصلي ما لم يدخل وقت الثانية، وهذا يتأتَّى في الصبح، فإنك إذا نظرت إلى الوقت فما بين طلوع الشمس وما بين زوال الشمس وقتٌ متسع، فعندما نقول: يلزمه الفور، أي: حين يستيقظ، ولكنه ينوي القضاء.

وأما بالنسبة للقول الثاني فمن حقه أن يؤخِّر ما لم تَزُل الشمس، وهذا القول الثاني أحد الوجهين عند الشافعية رحمة الله عليهم، ودليله حديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّس -أي: سار إلى آخر الليل- قال: فوقعنا وقعةً ما ألذ منها على المسافر، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال اكلأ لنا الليل)، ومراده أنهم من شدة التعب والإعياء وقعوا -بمعنى ناموا- وقعةً ما ألذ منها على المسافر، أي: شعرنا بلذة النوم لمشقة السفر وعناء السهر، قال: فقام صلى الله عليه وسلم: (يا بلال اكلأ لنا الليل)، قال: فقام بلال فلم يشعر الصحابة، ثم طلعت الشمس، ثم استيقظ عمر رضي الله عنه -كما في الرواية- وجعل يكبِّر، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من حر الشمس صلوات الله وسلامه عليه -والتعبير بالحر يدل على أن الشمس قد ارتفعت- فلما استيقظ قال: (يا بلال ما شأنك؟ فقال رضي الله عنه: (أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله) أي: ما أنا إلا بشر ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان أتى بلالاً حتى نام)، أي: ما زال يهدئه، ويقول له: الصبح باق، حتى نام رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، أي: ارتحلوا فأمرهم أن يرتحلوا عن الوادي الذي ناموا فيه، وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، ثم لما ارتحلوا حتى قطعوه أمر بلالاً فأذن، ثم توضأ فصلى رغيبة الفجر ثم صلى الفجر.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ مباشرة، فما بين قيامهم من النوم وصلاتهم أمد الارتحال، ومعلوم أن الجيش إذا ارتحل يأخذ وقتاً، فإذا شدوا رِحالهم، ووضعوا الرَّحل، فهذا يحتاج إلى عناء ووقت، فليس هو باليسير، خاصة أنه كان هذا في غزاته الأخيرة عليه الصلاة والسلام في العسرة، فإن هذا يحتاج إلى وقت وعناء، وبناءً على ذلك معناه أنهم قد أخذوا وقتاً ليس باليسير.

وبناءً عليه فكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر إلى هذا الوقت الذي هو ليس باليسير يدل على أنه يجوز أن يؤخِّر الإنسان، ولا حرج عليه ما لم يدخل وقت الظهر.

والذين قالوا بأنه لا يجوز التأخير، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر وقتاً يسيراً، والحقيقة أنَّ النفس تميل إلى أن قول من قال: إنه يجوز له التأخير أقوى؛ لأن التعليل بكونه منزل حضره الشيطان لا يدل على بطلان الصلاة فيه، بل العجيب أن بعض العلماء يقول: إنه مكانٌ كمَعَاطِن الإبل التي نُهِي عن الصلاة فيها، وقال: (حضرنا فيه الشيطان)، وهذا محل نظر؛ لأن هناك فرقاً بين قوله: (منزل شيطانِ)، و (منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، فإن قوله: (حضرنا فيه الشيطان) أي تسلط على بلال فنام حتى ذهب الصبح، وليس المراد أنه منزلٌ فيه الشياطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حضرنا فيه الشيطان)، والكلمات دلائلها معتبرة في أخذ معانيها وما يُستنبط منها، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (حضرنا فيه الشيطان)، ويعدل إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، كأنه كرِه هذا المنزل الذي حصل فيه التفويت للصلاة، وهذا من كمال طاعته لله عز وجل، وهذا شأن كمال الطاعة لا شأن الإلزام، ولذلك لو قلنا: إنه كمعاطن الإبل لقال العلماء من نام في غرفةٍ وفاتته صلاة الفجر يجب عليه ألا يصلي فيها، ولا قائل بهذا.

فبناءً على ذلك لا وجه أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لعذرٍ؛ لأن هذا ليس بعذر، وإنما هو من باب الكمال، وإذا كان من باب الكمال والفضيلة، فإن تأخيره -لو كان القضاء على الفور- لا يتأتى أن يَتْرك الفورية الواجبة لفضيلةٍ غير لازمة.

فمن هنا صح أخذ وجه الدلالة على أنه يجوز للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يؤخِّر، ولا حرج عليه، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان يخرج من الخلاف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بفعل الصلاة، ولذلك نقول: الأفضل والأكمل أنه يبادر بالصلاة، حتى يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.

وأما لو أخَّر الساعة والساعتين ما لم يدخل وقت الظهر فإنه لا حرج عليه لدلالة السنة على هذا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>