للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي]

قال رحمه الله: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] قال المصنف: (ويُبدأ بأيمان الرجال)، فلو أن هذه اليمين تمت على الوجه المعتبر، هل يستحقون قتل الشخص الذي حلفوا عليه؟ قولان للعلماء رحمهم الله: جمهور العلماء على أنهم لو حلفوا على شخص الأيمان على الصفة المعتبرة شرعاً أنه يقتص من القاتل الذي حلفوا عليه، وهذا المذهب دل عليه دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم)، فهذا نص واضح أنهم يستحقون بالخمسين اليمين القصاص والقود.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحلفون خمسين يميناً -وفي رواية السنن- تقسمون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) ما قال: فتستحقون الدية، وما قال: فتأخذون العوض، وإنما قال: (يدفع إليكم برمته)، والقتل الذي اشتكاه الصحابة قتل العمد؛ لأن عبد الله بن سهل رضي الله عنه وجد يتشحط في دمه؛ لأنه كان معه محيصة، وكانوا على مقربة من الليل -قبل الليل بقليل- فافترقا في حي من أحياء اليهود، فذهب عبد الله رضي الله عنه في ناحية، وذهب محيصة في ناحية، فرجع إلى الناحية التي كانا قد تواعدا فيها؛ فوجد عبد الله يتشحط في دمه، وهذا قتل عمد، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للأنصار في قوله: (فتستحقون به دم صاحبكم)، فلا مقابل في قوله: (تستحقون دم) إلا قتل العمد، فلا يصح تأويل هذا الحديث، أو حمله على أنهم يستحقون به الدية، وهذا المذهب هو الصحيح الذي دلت عليه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن هناك إشكال عند الذين قالوا: يستحقون به الدم، هل يحلفون على أكثر من رجل، منهم من قال: يحلفون على رجل واحد ولا يزيدون، كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (تحلفون على رجل منهم، فتستحقون دم صاحبكم) (تحلفون على رجل فيدفع إليكم برمته)، فعبر بالواحد ولم يعبر بالأكثر، ومنهم من قال: إنه لا يستحق أكثر من واحد؛ لأنه لا تقتل الجماعة بالواحد، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن دليل الكتاب والسنة قد دل على أن الجماعة تقتل بالواحد، والذين يقولون بقتل الجماعة بالواحد ويمنعون أكثر من واحد في القسامة، يقولون: لأن القسامة خرجت عن الأصل فتقيد بالوارد.

وفي الحقيقة أن القتل يصح للاثنين كما يصح للواحد، وجاءت السنة إعمالاً للأصل في الحادثة أنه يكون قتل من واحد، فلو قال: تحلفون على جماعة منهم، أو تحلفون على عدد معين لأوهم خلاف المراد، ولظن ظان العكس، أن القسامة لا تكون إلا على جماعة، وهذا ما يسميه علماء الأصول: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان يُقتل الواحد فدم الواحد كدم الجماعة، وقد بينا هذا في مسألة قتل الجماعة بالواحد، وعلى هذا إذا حلفوا الأيمان تامة كاملة على الصفة الشرعية يستحقون قتل أكثر من واحد.

قال: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ]: فإذا لم يحلف ونكل المدعون أو امتنعوا أو امتنع بعضهم، حلف المدعى عليه وتطالب الجماعة الذين ادعي عليهم أن يحلفوا خمسين يميناً أو يحلف الشخص الذي ادعي عليه خمسين يميناً ويبرأ، فإذا امتنع منها، قال بعض العلماء: يحبس حتى يحلفها، وهذا فيه أصل سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء، أنه إذا توجهت اليمين على أحد وامتنع من الحلف، هل يجبر على أن يحلف؟ وهل يُحبس حتى يكون منه حلف؛ لأن القضية لا تزال معلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، وفي الصحيح: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن اليمين على من أنكر).

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي: (ليس لك إلا يمينه)، هذا يدل على أن المدعى عليه يحلف اليمين، والمدعي يطالب بالبينة، أما إذا ادعى شخص على شخص، وقلنا للمدعي: أثبت، قال: ما عندي بينة، قلنا للمدعى عليه: احلف أنك بريء، فقال: لا أحلف، فهذه المسألة التي هي القضاء بالنكول, فهل في بعض الصور ترد الدعوى، وسنبينها إن شاء الله في باب القضاء، تشكل هنا في باب القسامة وبعض العلماء يرى أنه يحبس حتى يحلف الأيمان.

قال رحمه الله: (حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ) (وبرئ) يعني برئ من الدعوى ويطلق سراحه ما لم يثبت بالبينة أنه قتل، فلو قامت البينة بعد أن حلف الخمسين يميناً -والعياذ بالله- على أنه قاتل فإنه يقتل، يعني البراءة هنا فقط في مسألة القسامة، هذه قضية مستقلة، برئ من هذه الدعوى، لكن لو أقيمت عليه دعوى ثانية ووجد أولياء المقتول دليلاً من شهود عدول أو كان الشهود غائبين ثم حضروا وقالوا: رأيناه يقتل فلاناً، وشهدوا، فإن أيمانه التي حلفها أيمان فاجرة في حكم القضاء، وإلا قد يكون صادقاً بينه وبين الله، وقد يكون الشهود مخطئين فلنا حكم الظاهر، فتسقط هذه الأيمان ولا يعتد بها، فبرئ هنا المراد به من الدعوى التي هي دعوى الدم في أيمان القسامة.

لو حلف المدعي الخمسين يميناً، ثم قال المدعى عليه: أريد أن أحلف الخمسين يميناً حتى تسقط الدعوى، نقول: هذه البراءة لا تكون إلا إذا نكلت أولياء الدم، يعني لا يحلف المدعى عليه إلا إذا نكل أولياء الدم، أما إذا حلف أولياء الدم، فإنه يستحق القتل إذا كان قتل عمد، وإن كانوا أكثر من واحد فيستحقون القتل، ويجري فيه ما يجري في قتل العمد، وإذا كان قتل خطأ فلا إشكال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>