للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بيان أشد الحدود]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأشد الجلد جلد الزنا].

تقدم معنا أن الجلد عقوبة من عقوبات الحدود، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض الأحكام المتعلقة بالجلد شرع في بيان مسألة مهمة: وهي أن الجلد يقع في عقوبة الزنا، وعقوبة القذف، وعقوبة السكر، وفي التعزير أيضاً، فهل يكون الجلد كله واحداً في هذه الحدود بحيث لا يكون أشد في حدٍ دون آخر أم لا؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن أشد الجلد يكون في حد الزنا، ثم يليه حد القذف، ثم يليه حد السكر، ثم يليه التعزير، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.

وذهب بعض العلماء رحمهم الله: إلى أن الضرب في الحدود كلها على حد سواء، وهذا قول الإمام مالك والشافعي رحمة الله على الجميع، قالوا: لأنه لم يرد في النصوص تفضيل حدٍ على آخر، أو بيان أن الجلد في حدٍ يكون أقوى من الحد الآخر.

وذهب الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان- إلى القول بأن أشد الضرب يكون في التعزير، ثم بعد ذلك الزنا، ثم بعد ذلك السكر.

والذي يظهر أن ما اختاره المصنف هو الصحيح، وذلك لعدة أدلة: أولاً: أن الله تعالى حد الزنا بجلد مائة جلدة، ولم يسو بين الزنا والقذف، فالقذف أقلّ من الزنا عدداً، والسكر أقل من الزنا عدداً، فدل على أن عقوبة الزنا أقوى من عقوبة القذف والسكر، والتعزير أصلاً لا يصل الضرب فيه إلى الحدود، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصوله إلى ذلك الحد، فدل على أن: القذف والسكر والتعزير كلها دون الزنا بنص الشرع؛ لأن الشرع جعل العقوبة في الزنا أقوى.

ثانياً: أن الله تعالى قال في الزنا: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:٢]، وقال في القذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:٤]، فذكر في حد الزنا الجلد مقروناً بقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:٢]، ولم يذكر هذا الوصف في غيره، فدل على أن ضرب الزنا أقوى من ضرب غيره، ثم يلي الزنا القذف كما ذكر المصنف رحمه الله.

وأما الذين قالوا: إن التعزير أشد -وهم الحنفية- فاحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب رجلاً في التعزير ضرباً شديداً، حتى أثر في ضربه، وهو صبيغ بن عسل، وكان رجلاً مفتوناً -والعياذ بالله- من أهل الكوفة، وكان يأخذ آيات القرآن ويضرب بعضها ببعض، وذلك من انطماس بصيرته في أول أمره -والعياذ بالله- فأزله الشيطان بالشبه، فصار يأتي بالآيات المتعارضة، فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بخبره، فكتب له عمر: إذا أتاك كتابي فلا تبرح حتى تبعث به إلي، فمضى صبيغ إلى عمر بالمدينة، فأتاه فوقف عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ بن عسل، قال: أأنت الذي أخبرني عنه أبو موسى؟ قال: نعم، فقام إليه بالدرة، وضربه ضرباً شديداً، ثم قال له: هل تجد شيئاً مما تحسه؟ قال: لا، فعلم عمر أن الشيطان كان قد تلبس به -والعياذ بالله- فأدبه رضي الله عنه، وضربه ضرباً شديداً، فمن هنا قالوا: إن التعزير يقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أن وصف ضرب عمر بالشدة لا يستلزم أنه أشد من الزنا؛ لأن الوصف المطلق لا يقتضي الحكم على المقيد من كل وجه، وإنما وصف هذا الضرب بكونه شديداً بالنسبة لغيره.

ثم عندنا نص القرآن، وهو واضح الدلالة على أن حد الزنا أشد من غيره، فما اختاره المصنف رحمه الله من أن أشد الجلد يكون في الزنا هو الصحيح لأدلة القرآن.

قال رحمه الله: [ثم القذف].

القذف هو: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، ويكون للمسلم والمسلمة، كأن يقول للمسلم: يا زان! أو يقول لامرأة: يا زانية! أو فلانة زانية، أو فلان زان، فالاعتداء على أعراض المسلمين جريمة، وانظر إلى حكمة الشرع حيث عاقبه الله في بدنه، وعاقبه في لسانه، ولما ينتظره من عقوبة الله في الآخرة أشد وأبقى؛ إذا لم يتب إلى الله عز وجل، ولذلك قال سبحانه: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤]، فحكم بجلدهم ثم قطع لسانهم بعدم قبول شهادتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كانت هذه الألسنة لا تتقي الله في أعراض المسلمين؛ قطعها الشرع، وسنبين إن شاء الله هذا الحد.

فذكر رحمه الله أن حد القذف بعد حد الزنا، وهذا صحيح؛ لأن القذف مركب على التهمة بالزنا، وكلاهما اعتداء على الأعراض، لكن الاعتداء بالزنا أشد؛ لأنه بالفعل نفسه، وأما القذف فهو التهمة بالفعل، ومن هنا ألحقت العقوبة بالأصل، لأن الباب واحد وهو الاعتداء على العرض، والله جعل حد الفرية -وهي القذف- ثمانين جلدة، ففضلت حد الخمر الذي هو أربعون جلدة، وكان أقوى من حد السكر، خلافاً لمن قال من العلماء: إن حد السكر يلي حد الزنا، وهو مذهب من يقول بالتفضيل وفاقاً للمصنف، وطائفة وهم الحنفية يرون التعزير ثم السكر ثم الزنا.

قال المصنف رحمه الله: [ثم الشرب].

وهو حد المسكر، وسيأتينا إن شاء الله، فالضرب فيه دون حد القذف، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يقدروا حد الخمر؛ أوصلوه إلى حد القذف، فدل على أن حد المسكر بعد القذف، وليس مساوياً للقذف، ولا أقوى من القذف.

قال المصنف رحمه الله: [ثم التعزير].

التعزير يكون في الجرائم التي ليس لها حدود مقدرة من الشرع، من الأفعال التي لا تصل إلى الحدود، كشخص مثلاً هجم على بيتٍ، يريد أن يسرق، فافتضح أمره قبل السرقة، أو كان يريد الزنا ولكن لم يفعل ذلك، أو خلا بامرأة لفعل الزنا ولكن لم يفعل، أو تجردا ولم يقع منهما الزنا، ونحو ذلك من الجرائم القاصرة والناقصة، فعقوبة التعزير لا تصل إلى الحد، فقول الحنفية أن الضرب في التعزير أشد من الضرب في الحدود ضعيف؛ لأن أصل التعزير فيما دون الحد، ولا يمكن أن يكون ما دون الحد أقوى عقوبة من الحد نفسه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل الضرب في التعزير إلى الحد، فمذهب المصنف رحمه الله الذي اختاره هو الصحيح إن شاء الله والأقرب إلى النص.

<<  <  ج:
ص:  >  >>