للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها]

السؤال

في أيام الإجازة يكثر الزائرون والمعتمرون، فهل من كلمة توجيهية تذكر بفضل مكة وفضل العبادة بها؟

الجواب

هناك بيتان لطيفان جمعا المراتب الخمس المذكورة، يقول الناظم: خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزمٌ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن تولى الشيطان وله ضراط)، أثناء الإجابة كنت أحاول أن أتذكر البيتين فما تذكرتهما إلا أثناء الأذان، وهذا من عجائب السنة.

هذان البيتان يقول فيهما الناظم: (خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا) يعني: أولها الهاجس، (فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا) ثلاثة: الهاجس، الخاطر، حديث النفس، (يليه هم فعزم كلها رفعت) يعني: ما فيها مؤاخذة لا بإثم ولا بعقوبة، (سوى الأخير) الذي هو العزم، (ففيه الأخذ قد وقعا).

وهذا على اختيار المحققين، قال بعض مشايخنا رحمه الله: وما عليه عزم الثواب فيه وكذا العقاب ما ذكرت -أخي السائل- أمرٌ عظيم، هنيئاً ثم هنيئاً لمن وطئ بلد الله الحرام، واستشعر حرمته، وعلم علم اليقين أن الله فضله وشرفه وكرمه، هنيئاً لمن وطئ هذه الرحاب الفاضلات الطيبات المباركات، فخشع لله قلبه، وذرفت من خشية الله عيناه.

مكة وما أدراك ما مكة! البلد الأمين، الذي أقسم به رب العالمين من فوق سبع سماوات؛ تعظيماً له في الحرمات، وتذكيراً لعباده وإمائه من المؤمنين والمؤمنات، هذا البلد الأمين -الذي شرفه الله وفضله- أحب البقاع إلى الله، وجعل له الحرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس)، حرمها من فوق سبع سماوات.

في هذه الرحاب الطاهرات المباركات؛ خشعت قلوب المؤمنين والمؤمنات، ولا يستشعر عبدٌ فضلها، ولا عظيم شأنها، إلا أصابه الخير وكان من أسعد الناس.

هذا البلد الأمين شعت منه أنوار الرسالة، فأضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها، من هنا ناجى ربك عبده وخليله وحبيبه صلوات ربي وسلامه عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:١ - ٥].

من هنا أعلنت مبادئ الإسلام، من هنا كانت مآثره الجليلة العظام.

مكة وما أدراك ما مكة! هي مكة وبكة، بكت أعناق الجبابرة، وقصمت ظهور الأكاسرة، فكم قصدها من جبار فقصمه الله في جبروته؟ قال عبد المطلب لـ أبرهة: أما البيت فله رب يحميه، فكل من أتى هذه الرحاب، وحل بهذا النادي المبارك، واستشعر أنه في أحب البقاع إلى الله عز وجل فراعى الحرم والحرمة، وتذكر كيف أن الله سبحانه وتعالى جعله بساطاً للأمان، حتى الشجر يأمن، كما في الحديث: (لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها)، والطير في الهواء له أمان، فما بالك بالمؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم مكة: (أيها الناس! إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس، وإنها لم تحل لأحدٍ قبلي، ولن تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ورجعت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس، لا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد)، من يستشعر هذه الأمور العظيمة التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يدخل هذا البلد الأمين معتمراً أو زائراً أو مجاوراً ويستشعر أن الله سبحانه وتعالى اختاره من هذه الملايين المسلمة لكي يكون ضيفاً عليه في بيته؟ لو أن الإنسان وهو قادمٌ في عمرته يحس أنه ضيفٌ على الله، والضيف يكرم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع.

في هذه الرحاب الطاهرات الطيبات المباركات كم من ذنوبٍ غفرت، وكم من دعوات استجيبت، وكم من هموم فرجت، وكم من كربات نفست، وكم من درجات رفعت؟ هنا بكى المؤمنون والمؤمنات، وهنا خشع المؤمنون والمؤمنات، وهنا أناب المنيبون، وتاب التائبون، واعترف المذنبون، واستغفر المستغفرون، واسترحم المسترحمون.

من هنا صدر أناسٌ جاءوا بهمومهم، فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، بلا همٍ ولا غم ولا ذنب، منازل شرفها الله، وكرمها، وفضلها، حتى إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ذكَّر المؤمنين بفضلها، وعظيم قدرها، فدخل يوم فتح مكة في يومٍ أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وصدق وعده، دخل عليه الصلاة والسلام وقد طأطأ رأسه حتى أن لحيته تمس قربوس سرجه صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً لله، وإعظاماً لهذه الحرمة التي حرمها الله.

هنيئاًَ لمن يدخل مكة يوم يدخلها وهو يستشعر أنه في مكانٍ عظيم اختاره ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض.

قف أمام بيت الله عز وجل، وانظر كيف اختاره الله لأعز الأشياء وأشرفها، وقت مناجات العبد لربه في الصلاة، يتوجه إلى هذا البيت إيماناً وتسليماً موحداً لله مخلصاً، أي شرف أعظم من هذا الشرف! فيتوجه إلى هذا البيت موحداً لله، معظماً لله، سائلاً الله من فضله.

يقول بعض العلماء: عجبت من قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:٥]، وفعلاً المال تقوم به حياة الإنسان، وهذه سنة كونية جعلها الله سبحانه مؤثرة بتأثير الله عز وجل، وقال في بيته: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:٩٧]، ففي هذه الكلمة (قياماً للناس) من المآثر الدينية والدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.

يأتي العبد محملاً بالذنوب والخطايا، تائباً إلى الله، صادقاً مع الله عز وجل في توبته، فيأتي إلى الله معتمراً، فلا يبرح أن يطوف شوطه الأول فينفض من معاصيه كيوم ولدته أمه، ويأتي العبد مهموماً مغموماً مكروباً، قد أحاطت به الهموم في أهله وولده وماله، فيأتي إلى ربه منيباً إلى الله ضيفاً على الله، يشتكي إلى ربه، قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلم يجد له أحداً يغيثه ولا أحداً يعينه، وقد يئس من كل أحد، لكنه لم ييأس من ملك الملوك، ومن جبار السماوات والأرض، إله الأولين والآخرين، فيأتي إلى هذا البلد الأمين مؤمناً بالله، متوكلاً على الله، واثقاً بالله، والهموم تهزه، وتضيقه، وتضعف قوته، وتذهب حوله، حتى إذا وقف أمام البيت، وطاف بالبيت، وسبح الله وكبره وهلله وعظمه، وسأل الله صادقاً من قلبه؛ فكأن لم يكن به شيء من ذلك، وإذا بتلك الهموم والغموم تحل مكانها السكينة والأمن والأمان، وإذا بالضعف قوة، وإذا بالذلة عزة، وإذا بالمهانة كرامة، وإذا بالفقر غنىً بالله سبحانه وتعالى.

وكم وكم! حتى أن المرأة المكروبة أم إسماعيل ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي مع طفلها وفلذة كبدها ليس لها منجٍ إلا الله وحده لا شريك له، وترقى الصفا، وتسعى بين الصفا والمروة، تسعى وتخب لنجاة ولدها، ونجاة نفسها بإذن ربها، ويجعل الله تفريج كربها في هذه البقاع الطاهرات، وفي هذه المنازل الطيبات المباركات.

هنيئاً ثم هنيئاً لمن دخل البيت الحرام مؤمناً بالله كامل الإيمان، هنيئاً لمن يأتي في الحج والعمرة وهو يستشعر في كل لحظة، وكل ثانية؛ أنه ضيف على الله، يرجو رحمة الله، ويتذكر كم من أكف رفعت؟ وكم من عطايا منحت؟ وكم من دعوات استجيبت؟ وكم وكم؟ فلم تزد الله إلا كرماً وجوداً سبحانه وتعالى.

فإذا استشعر الإنسان هذا الفضل الذي جعله الله لبيته ولحرمه، فعندها تطيب نفسه بالله، ويقنع بما عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو كرم الله وفضله، وكم من قصص للسلف الصالح الأولين والآخرين! آه ثم آه لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث، فكم من دعوات استجيبت فيها! كم من صيحات وآهات وأنات فرجها الله عن المؤمنين والمؤمنات! آه كيف لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث بعظمته وجبروته، وعزه وملكوته، واستجابته ورحمته سبحانه وتعالى! آه لو قدر الناس قدر ربهم سبحانه، وأنى يستطيع الإنسان أن يقدر الله حق قدره! ولكننا في غفلة، طغت علينا الدنيا، فيدخل الإنسان مكة، ويخرج منها، ولا يستشعر هذه المعاني!! ولا يحس بهذه الأحاسيس!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى من هذه الغفلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم ضعفنا فيها، وأن يرزقنا إياها بالتفكر والاتعاظ.

إلى كل مؤمن ومؤمنة نزل بهذا الحرم أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في بلد الله الحرام، وإذا جاء بأسرته وأولاده وعائلته فعليه التذكر أن الله سائله عنهم، وأنه جاء للحسنات، والباقيات الصالحات، وأنه جاء يرجو رحمة الله، فيحكم زمام أولاده وأسرته، ويجعلهم مستقيمين على طاعة الله وذكره وشكره، ويذكرهم في كل لحظة، ويقرع مسامعهم بحرمة البيت، وحرمة المكان، عل الله عز وجل أن يعينهم فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.

كل من جاء ضيفاً إلى هذا المكان، عليه أن يتفقد أولاده وزوجه وإخوانه وأخواته، وهذا أمر مهم جداً.

وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس بهذه الحرمة لا سيما في هذه الإجازات، وأن يرحبوا بمن جاء ضيفاً إلى هذا البلد، وأن يهنئوه بفضل الله عز وجل عليه، ويذكروه بالحرم والحرمة، ويذكروه بفضل هذا المكان الطيب المبارك فلا يدنسه بمعاصيه، ولا يفلت عليه أبناؤه وبناته فيرتعوا في حدود الله، فتأتيهم نكبة من الله عاجلة أو آجلة، فلا يأمن أن يرجع بهم إلى بيته وداره من عاجل نقمة ربه به وبولده.

فعلى الإنسان أن يخاف من الله عز وجل، وأن يفزع من الله إلى الله عز وجل، وهناك حوادث تشيب من هولها الرءوس، أناسٌ مكروا وفجروا واستهانوا بحرمة البيت -خاصة ممن أتى من خارج مكة- فما تركهم الله، ولم يمهلهم الله عز وجل، ويحكى أن بعضهم خرج من حدود الحرم فلما نزل بعرنة وهي في آخر حد الحرم؛ حشره البول -أكرمكم الله- فنزل عن بعيره ليقضي حاجته، فجاءته حية فلسعته في ظهره، فقصم الله ظهره بما كان من فجوره، وما أمهله الله حتى يرجع إلى داره، فخر ميتاً في مكانه.

هذا بلد عظيم، وحرمته عظيمة، ومن أعظم ما يكون من العقوبة لمن فجر فيه أن يحرم الإنسان العودة إلى مكة، وهناك لله سنن، وهذه أشياء قد تعرف بالحوادث؛ لأن الله عز وجل يقول: {

<<  <  ج:
ص:  >  >>