للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عقوبات القاذف]

قال المصنف رحمه الله: [جلد ثمانين جلدة إن كان حراً].

أي: جلد هذا المكلف ثمانين جلدة بشرط أن يكون حراً، وبإجماع العلماء رحمهم الله أن حد القذف ثمانون جلدة، فهم متفقون على ذلك لنص القرآن: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤]، وقد جعل الله في القذف ثلاث عقوبات: العقوبة الأولى: أنه يجلد ثمانين جلدة.

العقوبة الثانية: أنه تسقط شهادته، فلو أن هذا القاذف الذي ثبت أنه قذف وأقيم عليه الحد، شهد في اليوم الثاني بأن فلاناً له عند فلان ألف ريال، أو أن فلاناً قتل فلاناً -أي شهادة كانت- ردت شهادته، لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:٤]، إلا إذا تاب، وتوبته بأن يأتي إلى القاضي ويقول: كذبت في تهمتي لفلان وهو ليس بزانٍ، فتوبته بأن يكذب نفسه.

العقوبة الثالثة: أنه فاسق، ونص الله عز وجل على هذه الأحكام الثلاثة: الحكم الأول: الجلد، وقد ذكر المصنف رحمه الله -وتقدم معنا- أحكام الجلد، وصفة الجلد، وما يجلد به، وأن جلد القذف بعد جلد الزنا في القوة والشدة.

الحكم الثاني: أنه لا تقبل له شهادة، ولا يشترط أن يشهد في القضاء، بل حتى لو جاءك وقال: أشهد أن فلاناً كاذب، أو يفعل كذا؛ قل له: أنت البعيد مقطوع اللسان، مردود الشهادة، ما لم تكذب نفسك، وانظر إلى تعظيم الله لحرمة المؤمن! ويدل عليه الحديث القدسي: (ما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، فالله عز وجل يؤدب عباده بهذا الحد، ولذلك قطع هذا اللسان الظالم الآثم الذي يرتع في أعراض المسلمين فلا تقبل له شهادة، ثم انظر إلى نص القرآن: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:٤]، واختلف العلماء في هذه الآية على قولين: بعض العلماء يقول: حتى ولو تاب لا تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:٤]، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله وطائفة، والجمهور على أنه لو كذب نفسه فجاء عند القاضي وقال: إنه كاذب، قبلت شهادته، وهذا البعيد لا يكفي أن يقام عليه الحد، بل لا بد أن يأتي عند القاضي ويقول: قد كذبت في تهمتي لفلان، وهذا يرد للناس حقوقهم؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد يبقى الناس في شكوك هل هو صادق أو كاذب؟ ولكن حينما يأتي إلى مجلس القضاء ويقول: إنه كذب في شهادته على فلان، وكذب في قذفه لفلان، وإن فلاناً بريء أو إن فلانة بريئة؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:٥]، فنص الله عز وجل على استثنائهم بالتوبة، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الاستثناء يشمل العقوبات السابقة، ومما يؤكد هذا أن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كان يقول لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك، أي: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا يدل على أنه لو تاب في الدنيا قبلت شهادته، وأنه لا يبقى على الأصل مردود الشهادة ما دام أنه قد تاب.

الحكم الثالث: أنه يفسق، والفاسق ساقط الخبر، لا يقبل خبره مباشرةً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦]، والمراد: تثبتوا، وهذا يدل على أنه لا يقبل خبره مباشرة.

ذكر المصنف رحمه الله عقوبة من قذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وبينا أحكام الجلد، وهذا القدر في حد القذف مجمع عليه بنص الله عز وجل في كتابه، وصفة الجلد تقدم أنها دون حد الزنا، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم بعده جلد القذف، وهذا لوجود المجانسة بالفحش في الجريمتين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>