للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اختلاف العلماء في تكرار الإقرار]

قال رحمه الله: [مرتين].

اختلف العلماء في السارق إذا أقر: هل يشترط تكراره؟ وقبل هذا؛ اعلم أن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان بإكراه، فلو أكره شخص على الإقرار فإقراره ساقط؛ لأنه لا إقرار مع الإكراه، قال عبد الله بن مسعود ويروى عن غيره من الصحابة: (إن الرجل ليس بأمين على نفسه ولا على ماله أن يقول ما لم يقل إذا ضرب أو أوذي)، فقال: ليس بأمين، والإقرار حجة إذا كان الشخص أميناً.

وبالنسبة للإقرار هل يشترط فيه التكرار؟ ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن الإقرار لا يكون حجة في السرقة إلا إذا كرره مرتين، فقال: إنه سرق.

ويعود مرة ثانية يقول: إنه سرق.

ويبيّن ما الذي سرقه ويحدده، لاحتمال أن يظن أن الشيء الذي سرقه يوجب القطع، والواقع أنه لا يوجب القطع؛ لأن الناس تختلف ظنونهم، فلربما سرق مالاً تافهاً وظن أن هذا يوجب القطع، ولربما أخذ مالاً من غير الحرز فظن أنه سارقاً وهو ليس بسارق، فلابد أن يقر، وأن يكون إقراره مرتين بما يثبت به الحد، فإذا كرر الإقرار مرتين ثبت عليه الحد، وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، واحتجوا بحديث الحاكم والدارقطني والبيهقي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق فقيل: يا رسول الله! إن هذا سرق.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخالك سرقت.

فقال: بلى يا رسول الله! فأمر به فقطعت يده)، لما قال له: (ما أخالك سرقت) كأنه يلقنه أن يمتنع من الإقرار.

وهذا يسمى عند العلماء -وتكلم عليه الأئمة-: تلقين الخصم، فإذا اتهم بالجريمة يلقن في السرقة ما يدرأ عنه الحد، وفعله بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من الخلفاء الراشدين كـ علي رضي الله عنه وغيره وعمر أيضاً رضي الله عن الجميع، فقالوا: إن هذا يدل على تكرار الإقرار؛ لأنه لما أقر المرة الأولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخالك سرقت) فرد الإقرار الأول، فرجع الرجل وقال (بلى) يعني: قد سرق، والسؤال معاد في الجواب، فلما قال له: (ما أخالك سرقت) يعني: ما أظنك سرقت، كأنه يلقنه أن يدفع عن نفسه التهمة فقال: (بلى)، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبت عليه الصلاة والسلام عليه الحد.

والجمهور يرون أنه لا يشترط تكرار الإقرار، وأن المرة الواحدة تكفي في ثبوت الحد عليه، واحتجوا بحديث صفوان رضي الله عنه وأرضاه، فإن السارق لما سرق رداءه أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره ولم يأمره بتكرار الإقرار، فدل على أن الإقرار مرة واحدة يوجب ثبوت الحد، والصحيح إن شاء الله أنه لا يشترط التكرار، ويجاب عن حديث التكرار بأنه في التلقين وليس في الإقرار؛ لأنهم قالوا: يا رسول الله! هذا سرق.

ولم يقر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة: (ما أخالك سرقت)، فليس هناك ما يدل على أنه صرح بالسرقة.

فالحديث من هذا الوجه يجاب عنه متناً، والسند فيه ضعف، وفيه مجاهيل، والمتن ليس فيه تكرار؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله! إن هذا سرق فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخالك سرقت)، فهي دعوى وردها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقر الرجل، وكان ينتظر منه الجواب فقال: بلى.

فصار هذا تلقيناً للخصم، وليس بتكرار للإقرار، وعلى هذا لا يقوى دليل من قال بالتكرار، والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله- أن المرة الواحدة كافية وإن صح الحديث فإنه يحمل على التلقين.

قال رحمه الله: [ولا ينزع عن إقرار حتى يُقطع].

يشترط في الإقرار أن يبقى عليه حتى يقطع، وهناك شيء يسميه العلماء إثبات الجريمة، ثم بعدها الحكم، ثم بعدها التنفيذ، ثلاث مراحل: - الإثبات، والحكم، والتنفيذ.

وعبء الإثبات يبقى على المدعي، فلابد في السرقة من وجود مدعٍ وهو صاحب المال، وإذا ثبتت السرقة بإقرار الشخص أو بالبينة فحينئذٍ يحكم القاضي بثبوت الجريمة، والقاضي سلطته سلطة تشريعية يثبت بها الجريمة، فيبقى التنفيذ، فإذا جاء التنفيذ الذي هو القطع والعمل بما أمر الله عز وجل به، فالأصل يقتضي المبادرة، فنص الأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز التأخير، وأنه يجب المبادرة بقطعه إحياءً لحق الله عز وجل، وإتماماً لأمره سبحانه وتعالى، والأمر يقتضي الفور؛ لأن الله أمرنا إذا ثبتت السرقة أن نقطع، والأمر يقتضي الفور في هذا.

فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا ادعيت عليه السرقة فأقر ثبتت، فوجب على القاضي أن يحكم، فإذا حكم القاضي، فيشترط أن يبقى الرجل على هذا الإقرار إلى التنفيذ، فلو أنه قبل القطع ولو بلحظة رجع عن إقراره، فقال البعيد: كذبت، فأخبر عن نفسه أنه كذب في إقراره، أو قال: ما سرقت.

أو كنت أمزح أو نحو ذلك، وقف الحد ومنع من تنفيذه.

إذاً: يشترط في إتمام العمل بهذه البينة أو بهذه الحجة أن يبقى على إقراره حتى ينفذ، هذا قول الجمهور رحمهم الله.

وهناك من قال: إن الرجوع لا يؤثر، وأنه لو رجع لم يسقط الحد؛ لأنه تعلق به حق الآدميين، والصحيح: أنه يسقط حد القطع، ولا يسقط الحق المالي، وخذها قاعدة في الإقرارات: إن الرجوع إن كان لحق الله أثر، وإن كان لحق المخلوق لم يؤثر.

فلو أن شخصاً أقر أن عليه لفلان عشرة آلاف ريال، ثم قال: لا ليس له عشرة آلاف ريال، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لمخلوق، وبإقراره ثبت في ذمته العشرة آلاف ريال التي أقر بها، لكن لو أنه قال: إنه زنى، ثم قبل التنفيذ رجع؛ عند ذلك يسقط الحد عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة ماعز: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه لما فر عندما أدركته الحجارة كما في الصحيح.

وقد تقدم معنا أن من أقر بالزنا وأراد أن يرجع عن إقراره فإن الشرع يرغبه في ذلك، وأنه إذا رجع يحكم باعتبار رجوعه، لكن الحق هنا لله عز وجل.

أما في السرقة فقد اجتمع الحقان: حق الله وحق المخلوق، فحق المخلوق أنه يقول: سرق مالي؛ لأن من سرق يجب أمران إذا ثبتت سرقته: نطالب القاضي بإقامة الحد والحكم عليه بالقطع، ونطالب السارق برد وضمان المال المسروق، فهو إذا أقر أنه سرق مالاً فقد أقر أن في ذمته للشخص مالاً، وحينئذٍ نلزمه برد هذا المال الذي أقر به، فإذا رجع عن إقراره فقد رجع عن حق ثابت للمخلوق فلا ينفع الرجوع منه، فيجب عليه ضمان المال المسروق الذي أقر أنه سرقه، ولكن لا ينفذ الحد؛ لأن رجوعه شبهة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>