للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أدلة تحريم الردة من الكتاب والسنة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله هذا الباب، وترجم له بقوله: (باب حكم المرتد) وهذا الباب يتعلق بعقوبة جناية من الجنايات، وهي راجعة إلى أصل الدين، وهي أعظم جناية وأعظم حدٍ ينتهكه العبد فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ومناسبة هذا الباب لما قبله واضحة ظاهرة، فإنه بعد أن بين حكم الخروج عن جماعة المسلمين شرع في بيان حكم الخروج عن الإسلام والدين.

وهنا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان عقوبة المرتد، ومتى يحكم بردة الإنسان وما يسميه أهل العلم بالموجبات وبنواقض الإسلام، ثم ما الذي يترتب على ذلك من عقوبة، ثم يبحثون في توبة المرتد.

فهذه ثلاثة عناصر يبحثها العلماء والأئمة رحمهم الله في باب الردة، ويعتنون بالجانب الفقهي العملي، وإن كان تفصيل المسائل ومباحثها يعتني به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد.

وقوله رحمه الله: (باب حكم المرتد) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالردة، فهي عقوبة شرعية يستباح بها دم الإنسان وماله، ولذلك تزول عنه عصمة الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وذكر منها- التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا هو المرتد.

والأصل أن الردة محرمة بإجماع العلماء رحمهم الله، وهي الذنب الأعظم، والخلل الذي ليس بعده خلل، ولذلك قال العلماء: ليس بعد الكفر ذنب، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢١٧] فحرم الله الردة، وأخبر أن صاحبها قد حبط عمله في الدنيا والآخرة، وأنه قد خسر خسارة لا ربح وراءها أبداً، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:١٥] فهذا الخسران الذي ليس بعده خسارة.

وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين حكم المرتد، وأنه مباح الدم كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فبين حرمة الردة، وأنها موجبة لزوال العصمة عن الإنسان.

وأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة الردة عن الدين، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة، ولكن أردنا أن نشير إلى هذا الأصل، حيث قال العلماء إنه قد اتفقت عليه نصوص الكتاب والسنة والإجماع.

ومدار بحث المصنف رحمه الله في ثلاثة جوانب: الجانب الأول: في حقيقة الردة وبم تكون؟ وهذا ما يسمى بموجبات الردة، وأسباب الردة، ويعبر العلماء عنه بقولهم: نواقض الإسلام.

والجانب الثاني: عقوبة المرتد، وهذا هو الذي يركز عليه الفقهاء رحمهم الله، وأما في مسائل الاعتقاد فيركز العلماء المعنيون بها على بيان أسباب الردة على سبيل التفصيل والبيان الواضح، وقد اعتنى أئمة الإسلام رحمهم الله قديماً وحديثاً بهذا الباب العظيم، ومن أنفس من كتب في ذلك من العلماء المتقدمين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، حيث بين نواقض الإسلام، ونواقض العقيدة، وكذلك أيضاً اعتنى به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد ومباحثها، حتى جاء شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله برحمته الواسعة، وكان في عصره قد تفشى في الناس الكفر والشرك؛ حتى أصبح البعض ينسب الأمور المحرمة إلى الدين والشرع، وهو منها براء، فأصبح الناس يتخذون القبور والمشاهد والأولياء يطوفون بها، ويصرفون حقوق الله عز وجل إلى أصحابها، ومن دخل تلك الأماكن فنظر أو سمع أو شاهد أحوال أهلها بكى على الإسلام بكاءً من صميم قلبه، وأحس بغربة الإسلام الحقيقية، حتى إنه ليسمع الرجل ويسمع المرأة تضفي على صاحب القبر من التقديس والمهابة والإجلال والصفات ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده لا شريك له.

كما يصرف لتلك القبور ولأصحابها من السجود والطواف والذبح والنذر ما تشيب منه الرءوس، ومن هنا سلط الله على المسلمين الذلة، وأصبحوا بحالٍ -كما يشاهد الإنسان- يرثى له بسبب انهدام أصل الدين، ووجود هذه النواقض التي تضاد شرع الله عز وجل، وما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله إلا لكي يكون الناس عباداً لله لا عباداً لخلقه، وتكلم رحمه الله في كتبه عن نواقض الإسلام، وجاء العلماء من بعد ذلك فشرحوا وفصلوا ذلك وبينوه، وسيبين المصنف رحمه الله جملة من هذه النواقض، وهل للمرتد من توبة على اختلاف أنواع الردة؟ كل هذا ما سيفسره وسيبينه رحمه الله في هذا الموضع.

فاعتنى في الباب الأول بالجزئيتين الأوليين: بيان حقيقة الردة وعقوبة المرتد، وذكر في الجزئية الثانية: ماذا ينبغي أن يفعل بالمرتد من تمام العقوبة، وهل للمرتد من توبة، أو ليست له توبة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>