للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشرط الأول: أهلية المذكي]

قال رحمه الله: [ويشترط للذكاة أربعة شروط: الأول: أهلية المذكي]: لا تصح الذكاة إلا إذا كان المذكي أهلاً، ويكون أهلاً [بأن يكون عاقلاً، مسلماً، أو كتابياً]: قوله: (بأن يكون عاقلاً فالمجنون لا تصح ذكاته، وكذلك السكران أما المجنون: فلأنه لا يقصد الذكاة، وحكي الإجماع، لكن عند الحنفية أنه إذا كان المجنون يضبط، قالوا: تصح صلاته، أي: إذا جاء وذبح أو نحر، وضبط الذبح والنحر، تصح ذكاته، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يوجد القصد، الذي ذكرناه في الإراقة على وجه التعبد.

أما بالنسبة للسكران؛ فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:٤٣]، فسيقول السكران: باسم الله، وهو لا يعلم ما يقول، وهذا يدل على أنه لا تصح ذكاة السكران؛ لأنه لا يعلم ما يقول، والمجنون في حكمه أيضاً، من باب أولى وأحرى، وهكذا من تعاطى المخدرات وزال شعوره، فإنه لا تصح تذكيته.

قوله: [مسلماً، أو كتابياً]: سواء كان مسلماً، أو كان كتابياً من اليهود والنصارى، يقول تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:٥]، والشرط: أن يكون ذبحه ونحره وقيامه بالتذكية على المعروف في دينه، فطعام الذين أوتوا الكتاب حل لنا، وقد خص الله عز وجل من بين الكفار أهل الكتاب؛ لأن غيرهم لا يتقيد بشريعة، وهم متقيدون بشريعة، وهذا الوصف يقتضي التخصيص.

وهناك من يقول: لما قال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): يعني ما يأكلونه من ذبائحهم، بأي طريقة ذبحوه، فكل شيء جاءنا من عندهم يؤكل، ولو كان بالآلات، يا سبحان الله! لو أن مسلماً وضع آلة، وصرعت البهيمة ودوختها، أو جاء بالآلة، وجعلها هي التي تفري الأوداج، وهي التي تقطع الرءوس، فإننا نقول: حرام، ولا يجوز، وإذا جاء كتابي -يهودي، أو نصراني- نقول: إنه يجوز؛ لأن الله يقول: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) لا يمكن هذا، (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ما حل طعام الذين أوتوا الكتاب إلا لطيبه؛ وطيبه لأنه من شرع سماوي، ولذلك أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية.

ومن أقوى الأدلة على ضعف القول بجواز أكل كل ما أكلوه: حديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إلا السن، والظفر، وأنا أنبئكم؛ أما السن فعظم-وتعرفون أن العظم زاد إخواننا من الجن، فإذا ذبح به فالدم المسفوح نجس- وأما الظفر فُمدى الحبشة) والحبشة كانوا من أهل الكتاب، وكانت الكنائس موجودة عندهم، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فكانوا يذكون بأظفارهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه التذكية، أحلال لأهل الكتاب حرام علينا؟! ويأتي المسلم يذكي به، إذن معناه: أنهم خرجوا عن دينهم، قال: (مدى الحبشة)، ما قال: (مدى النصارى)، ولذلك خص به: أهل الموضع.

فالذي نجده الآن في الذبائح المستوردة، نجد شيئاً خارجاً عن السنن، لا ينضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، ولا بضوابط أهل الكتاب، فالشركة تبحث عن كثرة الإنتاج، وتبحث عن كثرة ما تصدره من الذبائح، فتقتل بأي طريقة، وتزهق بأي طريقة، وبأي وسيلة، ثم بعد ذلك لا يُسأل، ونقول: إن هذا حلال، لا، ينبغي التقيد بالوارد، وهذا الوارد هو الذي وردت النصوص باعتباره، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:٥].

ومن طرق أهل الكتاب الموجودة الآن ما يأتي: أولاً: لا نجد تقيداً من شركات الذبائح بذبيحة أهل الكتاب، بل تعمل هذه الشركات بالطرق التي يراد منها تكثير الإنتاج، بغض النظر عن كونه موافقاً أو مخالفاً، ولذلك لا يتقيد أحد من أهل الكتاب عدا اليهود في ذبائحهم، ومن هنا أكل النبي صلى الله عليه وسلم شاة اليهودية، وكان بعض مشايخنا مثل الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما سافر إلى الغرب ما أكل إلا من ذبائح اليهود؛ لأنهم يتقيدون بشريعتهم، والذي يتقيد بشريعة أهل الكتاب تقيد بملة، ودين، وحينئذ يجوز أكل ذبيحتهم.

لكن الذي يجري في اللحم المستورد أنه يتم قتله -بالنسبة لما يتاجر به- على مرحلتين: المرحلة الأولى: التمهيدية؛ وهي السيطرة على البهيمة.

والمرحلة الثانية: مرحلة الإزهاق.

والمحظور موجود في المرحلتين، فمرحلة السيطرة على البهيمة هذه أصلاً ليست من شرع أهل الكتاب، إنما هي من بقايا اليونانية, فإنهم كانوا لا يقتلون إلا بضرب البهيمة بالعصا على رأسها حتى تدوخ، ثم بعد ذلك يذكونها، وهذا الضرب قد يقتل البهيمة قبل أن تزهق روحها، ويقولون: إن هذا أرحم بالبهيمة.

والمصدّر من الطعام: منه ما يكون من الدجاج، ومنه ما يكون من الغنم، ومنه ما يكون من البقر، فالنسبة للحيوانات الكبيرة، يُعتنى بصرعها وتدويخها، ومسألة التدويخ تكون بطريقة الصعق الكهربائي بالمسدس في النخاع، أو الدائرة الكروانية، وهناك طريقة للدجاج خاصة؛ لأنه لا يحتاج إلى سيطرة عليه مثل البقر والغنم، وهي التي تسمى بالطريقة الإنجليزية، وهي مشهورة: يخزعون -وحتى في البهائم البقر والغنم يفعلون هذا- ما بين العظم الرابع والخامس في عظام الصدر بالمنفاخ، ثم يضخون الهواء، عندها تتخثر البهيمة، ويضعف النفس.

وهذا التدويخ من سلبياته: معارضته للشريعة، فإن الشريعة قصدت الإزهاق وإنهار الدم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه).

قالوا: إن البهيمة تستطاب بخروج الدم منها؛ لأنه بمجرد حدوث أي نزيف يسترسل الدم، وهذا أبلغ في طهارة المذبوح كما هو معروف طبياً، وأبلغ في طهارة اللحم، واستطابته، والعملية التي يفعلونها - وهذا إذا سلمت البهيمة- الدجاج أول شيء: يقلب، ثم يحضر بالماء ويعلق من رجليه، ولا يصل إلى المكان الذي فيه الآلات إلا وشيء منه يموت أثناء حمله، وشيء منه يموت أثناء تعليقه، ثم لا يبالى أهو حي أو ميت، ثم بعد ذلك يرش بالماء لتنظيفه بطريقة معروفة، وهذه الطريقة أبدى بعض الذين حضروا ورأوا أنه قد يحصل خنق للبهيمة بسبب الماء المبرد، ثم بعد ذلك يحضر بالتدويخ، كل هذه المراحل تأتي بعد مرحلة الزهوق.

وبالنسبة للبقر والغنم فإنهم يدخلونه بين نوعين: الدوار، والمثبت، وهي معروفة في الغرب، وجميع هذه الأحوال للبقر، والغنم، والدجاج، والآلة هي التي تزهق، فهذا هو التحضير كله، وهناك التدويخ الذي يأتي على نفس البهيمة، وقد تموت بفعل الخزع بالنخاع، ومعروف أن خزع النخاع قد يقضي على البهيمة، ولذلك من العلماء من قال: إذا ذبح الذابح، وأدخل السكين، وقطع النخاع قبل قوة المور في فري الأوداج، والحلقوم والمريء، أصبحت شبهة؛ لاحتمال أن البهيمة ماتت بخزع النخاع ولم تمت بفري الأوداج والحلقوم والمريء، وهذا سيأتي في فصل الرأس، ومن هنا قال بعض العلماء بعدم حلها، وإذا قطع النخاع وصبرت قبل الزهوق تذبح من الخلف، كل هذا من أجل أن يكون الفوات للنفس عن طريق النزف وإنهار الدم، وهذا كله مصادم لما في الشرع فيترك.

ثم تأتي المصيبة العظمى وهي: عمل الآلة، أي: أن الذي يقتل هو الآلة؛ فليس هناك آدمي؛ لا كتابي ولا غيره، بل الآلة هي التي تذكي، إلا إذا كانت الآلة من أهل الكتاب، لا أدري!! فما العجب من أن نسأل: هل ذكوا أو لم يذكوا، أهل لأن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً يأتوننا بلحم، حديثو عهد بجاهلية، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا) فهذا الحديث خارج عن مسألتنا؛ فمسألتنا: خرجت فيها الذكاة عن الصورة الشرعية المعتبرة عند الكتابيين وعند المسلمين، أما حديث عائشة: (إن أناساً حديثو عهد بجاهلية) فمعناه: أنهم أسلموا، لكن لا ندري عندما ذبحوا؛ هل ذبحوا على طريقة الإسلام، أو على الطريقة التي ألفوها.

والأصل: أنهم لما أسلموا يعاملون معاملة المسلمين لا معاملة أهل الجاهلية، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لها: (سم الله) يعني هذا لا يسأل عنه؛ لأن الأصل في المسلم إذا ذبح أن تؤكل ذبيحته، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا، فذلك المسلم).

فهؤلاء الأصل فيهم: أنهم إذا أسلموا أن يعملوا بوفق شريعة الإسلام، ولذلك ألغى النبي صلى الله عليه وسلم الشك، وهذا ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمسألتنا، فالذي معنا: إعمال الذكاة، وإنفاذ الذكاة على الأصل الذي لا يمت لا إلى الشريعة الإسلامية، ولا إلى ذبائح أهل الكتاب بصلة، فوجب العمل بالأصل الشرعي: أننا نقول: هذا ليس من طعام أهل الكتاب؛ لأنه لا يحل لهم في دينهم، وإنما هو خارج عن الأصل، فلا يحل أكله حتى يكون ذبحه من المحافظين؛ فإذا كان نصراني يذبح بذبيحة النصرانية فأقبل، ولو جئت نصرانياً، وذبح ذبيحته على طريقته أقبل وآكل، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية، أما أن تذبح الآلات، وتسفك، وتنهر الدم الآلات، فهذا ليس بداخل تحت قوله:: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) والجمهور على أن العبرة في طعام أهل الكتاب: أن يكون وفق شريعتهم، وليس على كل ما فعلوه أنه يقبل منهم، خاصة وحديث مدى الحبشة يدل على أنهم إذا استطابوا شيئاً أو أكلوا شيئاً، لا يأخذ حكم الأصل من جواز أكله.

وقوله: [ولو مراهقاً]: ولو: إشارة إلى الخلاف المذهبي.

(مراهقاً) مثلاً: صبي قبل البلوغ؛ في الثانية عشرة أو في الثالثة عشرة، ولم يحتلم، ولكنه يعقل، وسمى الله وذبح الذبيحة، قال: تحل ذبيحته.

قوله: [أو امرأة]: وكذلك المرأة، كما ثبت في صحيح البخاري في قصة المرأة عندما عدا الذئب على شاتها، فقطعت حجراً ثم ذبحتها.

قوله: [أو أقلف]: وهو غير المختتن، فلا تأثير له في الذكاة، وتصح ذكاته.

قوله: [أو أعمى]: جمهور العلماء على صحة تذكية الأعمى إذا ضبط ذكاته، وقال الإمام النووي

<<  <  ج:
ص:  >  >>