للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفرق بين المدعي والمدعى عليه]

قال رحمه الله: [المدعي من إذا سكت تُرك].

والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك هذه المسألة تعرف بمسألة تمييز المدعي من المدعى عليه، ولا يمكن لقاضٍ أن يقضي في قضية حتى يستطيع أن يعرف أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، ومن أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، أن يميز بين المدعي والمدعى عليه، إذ لا يمكن لأحد أن يفصل في قضية، حتى ولو لم تكن قضائية، حتى في العلم في مسائل العلم؛ لأن الإنسان إذا علم من هو المدعي، قال له: عليك الحجة وعليك البينة، وطالبه بالحجة والبينة، وإذا علم المدعى عليه بقي على قوله حتى يدل الدليل على خلافه، ولذلك تجد طلاب العلم الذين لا يحسنون هذا الباب، يجلس بعضهم مع بعض، ويقول كل واحد منهم: أعطني دليلاً، والآخر يقول: أعطني دليلاً، فهم لم يعرفوا الأصول ولم يثبتوا الأصول، حتى يميزوا من الذي يطالب بالدليل والحجة، ومن استطاع أن يضبط الأصول ويعرف القواعد والأسس في ضبطها، فإنه لا يشكل عليه أمرها.

ومن هنا قال الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: من عرف المدعي من المدعى عليه، لم يلتبس عليه حكم في القضاء.

إذاً لابد من معرفة حال المدعي والمدعى عليه، حتى قال بعض العلماء في نظمه: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا عليه جملة القضاء وقعا: كل القضايا لا يمكن أن يبت فيها حتى يُعرف من المدعي ومن المدعى عليه.

وهذه الضابط الذي ذكره المصنف رحمه الله ارتضاه كثير من أهل العلم رحمهم الله.

وصححوه، وقال به فقهاء الحنفية، وقال به بعض الشافعية، ورجحه الإمام الشوكاني وغيره، وانتصر له الإمام الماوردي رحمة الله على الجميع في الحاوي: أن المدعي من إذا سكت تُرك؛ لأن الحق حقه، فلو أنه لا يريد أن يدعي لا نأتي ونقول له: طالب، ويجب عليك أن ترافع، والمدعى عليه إذا أقيمت عليه الدعوى، فإنه إذا سكت، نقول له: أجب، ولا يترك، ويطالب بالرد، لكن المدعي لا يطالب؛ لأن له الحق في أن يطالب، وإذا سكت ولم يطالب لم يفرض عليه أحد أن يتكلم، ولم يفرض عليه أحد أن يخاصم، ولكن المدعى عليه -ولا تقل: هذا مدعى عليه؛ إلا إذا ثبتت دعوى- لا يمكن أن يترك؛ بل يقال له: أجب، وقد تقدم معنا أنه يجبر على الجواب حتى ولو سكت: ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا ولذلك يطالب وإذا سكت لم يترك، أما المدعي فهو الذي إذا سكت ترك، هذا هو الضابط الذي اختاره المصنف رحمه الله.

وهناك ضابط آخر -وهو صحيح وقوي جداً- وهو أن المدعي من كان قوله موافقاً للأصل، والمدعى عليه من كان قوله خلاف الأصل، فمثلاً: شخص جاء وقال: فلان زنى.

فالأصل أنه غير زانٍ، فحينئذ الذي قال: فلان زنى، هذا مدعٍ، والطرف الآخر الأصل -وهو المدعى عليه- فيه البراءة من التهم، حتى يثبت أنه متهم، فإذا قال شخص: فلان ضرب فلاناً.

الأصل أنه لم يضرب، فحينئذ الذي يقول: فلان ضرب فلاناً؛ مدعٍ.

ويكون الطرف الآخر مدعىً عليه، هذا ضابط.

وهناك ضابط آخر يضبط القضايا بألفاظها.

فقال بعضهم: المدعي من يقول: حصل كذا، كان كذا، يعبرون بقولهم: كان كذا، أي: بعت، اشتريت، أجَّرْت، أخذ مني سيارةً، أخذ داري، اعتدى عليَّ، شتمني، ضربني، والمدعى عليه: هو الذي يقول: ما ضربته، ما شتمته، لم يكن كذا.

فقالوا: المدعي هو الذي يقول: كان، والمدعى عليه: هو الذي يقول: لم يكن.

وكذلك أيضاً يعرف المدعي إذا كان قوله خلاف الظاهر، والمدعى عليه من هو على الظاهر ويكون بالعرف، فمثلاً: عندنا بالعرف أنه إذا كان شخص يسكن في بيت، وجاء شخص وقال: البيت بيتي، أو العمارة عمارتي، أو الأرض أرضي، فحينئذ الظاهر أن الأرض لمن يعمل فيها، والبيت لمن هو ساكن فيه، فظاهر العرف يشهد بأن الإنسان ما يتصرف إلا في ماله، كذلك لو وجدنا شخصاً راكباً على بعير، والآخر غير راكب، فقال الراجل: هذا بعيري، فالظاهر يشهد وكذا العرف يشهد بأن هذا مدعٍ، والراكب مدعىً عليه، ونعود في ذلك إلى التعريف الذي ينص على أن الذي خلا قوله عن الأصل وعن العرف أو الظاهر الذي يشهد بصدق قوله فإنه حينئذ يكون مدعياً.

وأما إذا اقترن قوله بالأصل واقترن قوله بالظاهر؛ فإننا نقول: إنه مدعىً عليه، وحينئذ لا نطالبه بالحجة، ونبقى على قوله حتى يدل الدليل على خلاف قوله، والبعض صاروا إلى هذا كما يقول الناظم رحمه الله: فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد (من أصل) فمثلاً قال: فلان زنى، الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

فقوله مجرد من الأصل، فنقول له: ائتِ بالبينة، وأنت مدعٍ أو (عرف بصدق يشهد) أي: عرف يشهد بصدق قوله، وقد قلنا: إن العرف يحكم بأن راكب الدابة هو صاحبها، وكذلك لو كان اثنان على دابة، فالعرف يقضي أن الذي في المقدمة مالكها، أي: لو قال كل منهما: هذه دابتي، فالذي في المقدمة مدعىً عليه والذي في الخلف مدعٍ.

ولو كانا في سيارة وأحدهما يقود والآخر راكب، فإن العرف يشهد بأن الذي يقود السيارة مالكها -والآن أوراق التملك تحل القضية- فمن حيث الأصل أن المدعي من تجرد قوله من الظاهر ومن الأصل ومن العرف الذي يشهد بصدق قوله: وقيل من يقول (قد كان) ادعى و (لم يكن) لمن عليه يُدعى (وقيل) أي: من جملة الأقوال في ضابط المدعي والمدعى عليه، (من يقول: قد كان؛ ادعى أي: أنه مدعٍ، كان كذا، حصل كذا، وقع كذا، فلان ضرب، فلان شتم، فلان أخذ، فلان سرق، فلان كذا.

فهذا مدعٍ.

والذي قال: ما فعلت، أو ما سرقت، أو ما أخذت، أو ما تكلمت، أو ما آذيت.

هذا مدعىً عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>