للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[العلامات التي يستدل بها المسافر ونحوه على القبلة]

قال رحمه الله تعالى: [ويُستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما].

قوله: [ويستدل عليها بالسفر] أي: في حال السفر؛ لأن الباء تأتي بعشرة معانٍ، ومنها الظرفية.

تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدِّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلا فمن معانيها الظرفية، تقول: محمدٌ بالبيت، أي: في البيت.

فُستدل على القبلة بالسفر -أي: في حال السفر- بالقطب، والقطب نجمٌ صغير خفي، والمراد به القطب الشمالي، ويكون بين بنات نعش الصغرى، وهو لا يكاد يظهر إلا في الليالي المقمرة، ويستدل عليه بالجَدي وبالفَرقَدَين، والفرقدان: النجمان اللذان يدوران على القطب، والقطب ثابت لا يتحول، ولكن دورتهما خفيفة، وبقية النجوم التي تراها حوله تدور حوله ومحيطة به كإحاطة الرحى، ولذلك يقولون: سمِّي قُطباً من هذا الوجه، ويستدل عليه إما بالجدي، وإلا بالفرقدين، ويحتاج إلى إنسان له علم وبصيرة بموضعه.

وهذا القطب يكون في الجهة الشمالية، وفي بعض المواضع يمكن للإنسان أن يحدد موضع القبلة على حسبه، فإذا كان الإنسان في الشام، أي: في جهة الشمال، ووَضَعه وراء ظهره، ووراء أذنه، قالوا: هذا يُعد مستقبلاً للقبلة، وإذا كان في جهة اليمن يجعله في وجهه، كما قيل: مَن واجه القطب بأرض اليمن وعكسه الشام وخلف الأذُن يُمنى عراقٍ ثم يُسرى مصر قد صححوا استقبالها في العمر ففي اليمن يجعله في وجهه؛ لأنه يكون في الجنوب فيَعكِس؛ لأن من كان في جنوب الجزيرة تكون قبلته في الشمال، فيجعل القُطب في شماله، وإذا كان في الشمال سيكون الأمر بالعكس، فيجعل القطب وراءه، ويكون في يمين مَن كان في جهة العراق، ويَسار من كان في جهة مصر، فهذا المشرق وهذا المغرب، فيُستدل بالقطب، وهو دليلٌ ثابت، هذا إذا كان يعرفه، ويمكنه أن يهتدي إليه.

قوله: [والشمس والقمر ومنازلهما].

كذلك الشمس والقمر، فلو فرَضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الصبح قضاءً، حيث استيقظ بعد طلوع الشمس، فهو يعلَم أن الجهة التي فيها الشمس الآن هي المشرق، ويقابلها تماماً المغرب، فإذا كانت قبلته في جهة الشرق استقبل جهة طلوع الشمس، وإذا كانت في جهة الغرب استقبل جهة غروب الشمس العكسية، وجعل الشمس وراء ظهره عند الإشراق.

لكن ينتبه لفصل الشتاء وفصل الصيف؛ لأنها في فصل الشتاء تنحرف إلى جهة الشمال، وتكون عند مهب الصبا في الشتاء، فينتبه لهذا الانحراف في الدرجات حتى يُراعِي السمت والجهة، ويكون أقرب إلى إصابة جهة الكعبة.

وكذلك منازل القمر، فلو أنه في الليلة الأولى رأى الهلال فإنه يعلم أنها جهة المغرب، فإذا أراد أن يستقبل القبلة وكانت هذه جهة المغرب التي فيها الهلال فمعناه أن التي يخالفها المشرق.

فإن كان من أهل المغرب جعل الهلال وراء ظهره واستقبل عكس الجهة التي هو فيها، وإن كان من أهل المشرق جعله في جهة المغرب؛ لأن قبلته ستكون في المغرب.

قوله: [ومنازلهما] للقمر منازل، فمثلاً في الليلة السابعة لو أن الإنسان في المشرق يكون القمر مواجهاً له، بحيث لو استقبله يكون على القبلة، فهذا في الليلة السابعة؛ لأنه في كل ليلة يكون للقمر منزلة، وهي ثمانٍ وعشرون منزلة.

والمقصود أنه يتعلم هذه الأمارات والعلامات ويطبِّقها، وهذا إذا كانت السماء صحواً وأمكنه أن يعلم، أما إذا كانت مغيمة فحينئذٍ يكون الحكم شيئاً آخر، فيستدل إذا وُجِد الإمكان للاستدلال، لكن لو لم يمكن له الاستدلال لوجود الغيم فحينئذٍ لا يُكلَّف بالاستدلال لعدم وجود الأمارات والعلامات، والأصل في اعتبار هذا الدليل وهذه الأمارات قول الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:١٦]، وهذه من نعم الله عز وجل.

وذكر لنا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم -وقد كان يفسِّر لنا قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:٦٣]- أنه كان في صِغَرِه مسافراً من مصر إلى مكّة من أجل الحج، وهذا الكلام قبل قرابة ثمانين سنة، وقد توفِّي الشيخ وكان من العلماء الأجلاء رحمة الله عليه، يقول: كنا في الليل في السفينة، وكنت بجوار الذي يقود السفينة، فوجدته ينظر إلى السماء ويقود، وكنت صغير السن، فعجبت؛ فسألته وقلت له: كيف تقود وأنت تنظر إلى السماء؟ قال: إن بعض الشعاب المرجانية الموجودة في البحر يُستدَل عليها بالنجوم، فبعض النجوم تدل على مواضعها.

ولا يقف الأمر عند العلامات والأمارات التي تكون بالجهات، بل حتى ساعات الليل من ناحية أوله وأوسطه وآخره، فالثلث الأول والثلث الأوسط والثلث الأخير يدل على ذلك إذا ضبطها الإنسان، فكل شيء موزون، وليس في الكون اختلاج؛ لأنه من صنع اللطيف الخبير والحكيم البصير سبحانه الذي لا يمكن أن تجد في خِلقته أو صنعه أي خلل، وخلَق كل شيءٍ فقدَّره تقديراً.

وقد وضع بعض الخبراء في موضع ما ثقباً صغيراً لا يدخل ضوء الشمس منه إلا في لحظة معينة من السنة كلها، وهذا يدل على أن مجرى الشمس ثابت لا يمكن أن يتحول شعرةً واحدة، وهو يوم معين في السنة خاصة على الأيام التي تكون منضبطة بالأشهر الشمسية، فالشاهد من هذا أن هذه العلامات والأمارات ثابتة، وعلم النجوم محرَّم إذا كان يُتوصل به إلى ادعاء علم الغيب، أو يتوصل به للاعتقاد بالنجوم كما هو مذهب السامرة الذين يعبدون النجوم والكواكب -والعياذ بالله-، وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر -والعياذ بالله-، ويعتبر ردة وخروجاً عن الإسلام إذا اعتقد الإنسان أنها تنفع وتضر، كالاعتقاد في بعض النجوم أنها إذا ظهرت كان بلاءٌ وشقاءٌ على الناس، أو إذا اختفت أن ذلك نعمة ويسر، ويسمون هذا سعد السعود، وهذا سعد الذابح ونحو ذلك، فلا يجوز الاعتقاد في الكواكب ولا في النجوم، وإنما يعتقد في الله سبحانه وتعالى الذي يحكم ولا يعقَّب حكمه وهو الحكيم الخبير، فالمقصود أنه يجوز الاهتداء بالنجوم وبالكواكب وبالشمس وبالقمر لمن يعرف هذا الدليل.

قال بعض العلماء: يجب على الإنسان إذا سافر أن يكون على علم بهذا الدليل، وإذا تركه يأثم؛ لأنه تلبَّس بالحاجة، وإذا تلبس الإنسان بالحاجة يجب عليه تعلم علمها، وكذلك يقولون: يجب تعلم أحكام البيع لمن تلبس بالبيع، ويجب تعلم أحكام التجارة لمن تلبس بالتجارة، وأحكام الحج لمن أراد الحج، وكذلك هنا من أراد السفر ينبغي أن يتعلم هذه الأمارات والعلامات حتى يكون آمناً أو سالماً في دينه.

وهناك أدلة أخرى لم يذكرها المصنف، ومن أضعفها الرياح، فقد ذكر الإمام النووي رحمه الله أن للقبلة أدلة كثيرة، حتى أُلِّفت فيها مؤلفات، وكثيرٌ منها مخطوط، ويقول: إن أضعفها الرياح.

فالريح أحياناً يستدل بها على القبلة، كالصبا والدبور والشمال والجنوب، فهذه كلها رياح يُستدل بها على الجهات، خاصةً إذا كان الإنسان غالب حاله في البر فإنه يضبط هذا، فأهل البر عندهم علم وخبرة بذلك.

وأذكر أنني ذات مرة زرت بعض المناطق التي على الساحل، فقال أحد المشايخ الفضلاء: إنه إذا جاء الزوال هبت الرياح من البحر، وكانت في أول النهار تهب الرياح إلى داخل البحر، وإذا جاء الزوال هبت من البحر، ثم لا نلبث أن نمكث ثلاث ساعات إلى ساعتين ونصف حتى تهب إلى داخل البحر، ثم إذا جاء العشي أو آخر النهار هبت من البحر، فانظر إلى رحمة الله ولطفه؛ لأنهم في أول النهار يحتاجون الدخول إلى البحر، فسخرها سبحانه على البحر، ثم إذا قضوا معاشهم في منتصف النهار احتاجوا للرجوع فسخرها الله على البر، ثم إذا قضوا واستجموا كانوا أحوج ما يكونون للدخول، فيسخرها الله على البحر ويرسلها على البحر ثم يعيدها إلى البر، وهذا كله من لطف الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>