للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لزوم إسماع الإمام من خلفه من المؤتمين]

قال رحمه الله تعالى: [ويسمع الإمام من خلفه كقراءته في أولتي غير الظهرين].

قوله: [ويسمع الإمام من خلفه] أي: تكبيرة الإحرام، وذلك لأن تكبيرة الإحرام تنعقد الصلاة بها، وقال العلماء: إنه لو سبق المأموم الإمام في تكبيرة الإحرام، أو سبقه بالسلام بطلت صلاته خاصة على مذهب من يرى اتصال صلاة المأموم والإمام، كما درج عليه الحنابلة ومن وافقهم أنه لو سبق تكبير المأموم على الإمام بطلت صلاته ولم تنعقد له، ولذلك يقولون: إنه ينبغي عليه أن يتحرى، فإذا كان المأموم مطالباً بإيقاع تكبيره بعد تكبير الإمام فإنه ينبغي على الإمام أن يرفع صوته حتى ينبه الناس.

وقد أجمعوا على أن المأموم لا يجوز له أن يسبق الإمام فيكبر قبل تكبير الإمام، واختلفوا: لو أن المأموم ساوى الإمام فكبّر مع تكبير الإمام، فهل هذا هو السنة، أم السنة أن ينتظر إلى أن يكبّر الإمام ويكبر بعده؟ فذهب جمهور العلماء إلى أن السنة أن يكبّر المأموم عقب تكبير الإمام، وذلك لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا)؛ لأن قوله: (فإذا كبّر) أي: فرغ من التكبير، (فكبروا) أي: أوقعوا تكبيركم بعد تكبيره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني إني قد بدنت)، فدل على أن المأموم كما أنه في الفعل لا يوقعه إلا بعد الإمام، كذلك أيضاً في القول لا يوقعه إلا بعد الإمام، ولقوله في الرواية الثانية: (ولا تكبروا حتى يكبر).

فهذه الثلاثة الأحاديث اقتضت أن يقع تكبير المأموم بعد تكبير الإمام، ولذلك قال أصحاب هذا القول وهم الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-: تحرم مسابقة الإمام وتكره موافقته؛ لأنها حالة بين الحلال والحرام، فبين الحلال كونك توقع التكبير بعده، وبين الحرام كونك تسبقه، ولذلك عبروا بالكراهة، كما نبهنا غير مرة أن مسلك بعض الأصوليين أن المكروه مرتبة بين الحلّ والحرمة.

أما بالنسبة لفقهاء الحنفية فقالوا: السنة أن يوقع المأموم تكبيره مع تكبير الإمام، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كبّر فكبروا) والفاء تقتضي العطف مع المقارنة، كما تقول: جاء محمد فعمر بمعنى أنهما كادا أن يكونا متصلين ببعضهما، قالوا: وهذا يدل على أن تكبير المأموم يكون مع تكبير الإمام، ولا شك أنه الحل المجازي؛ لأنهم قالوا: (إذا كبّر) بمعنى: شرع في التكبير، كما يقال: أنجد: إذا دخل نجداً، أي: بدايتها، وأتهم: إذا دخل تهامة وإن لم يكن قد بلغ آخرها، وهذا معروف في لغة العرب، قالوا: فقوله: (إذا كبّر) أي: ابتدأ التكبير، (فكبروا) أي: اصحبوه في تكبيره، فهذا وجه الحديث عندهم، ويلاحظ أن الكل يتمسك بالسنة.

والحقيقة الذي يترجح ويقوى من جهة النصوص والنظر أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وعلى هذه المسألة تفرّع قولهم في السلام، ولذلك تجد بعض من يميل إلى هذا القول يسلم مع تسليم الإمام، ولا شك أن هذا له وجهٌ من السنة بناءً على أنهم يرون أن العطف في هذه اللغة وفي هذا الوجه يقتضي المقارنة، وإن كنا قد قلنا: إن الصحيح أن يأتي بالتكبير والفعل بعده، لكن ما دام أن الإنسان يتأول وجهاً من السنة فلا إنكار، ولكن الصحيح والأقوى أن يوقع فعله بعد فعل الإمام.

والجهر بالتكبير على حالتين: الحالة الأولى: المبالغة في الجهر فهذه مكروهة، وهي أن يبالغ في رفع صوته إلى درجة أن يزعج من وراءه من المصلين، فإن الصلاة خشوع وخضوع وسكينة، وينبغي للأئمة دائماً أن يتعاطوا مراتب الكمال وأنسب الأحوال، حتى يكون ذلك أقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأشبه بالعبادة التي يتلبسون بها، ولذلك لا يبالغ بالتكبير بصوتٍ فيه مبالغة في الرفع؛ لما فيه من الأذية والإجحاف بالنفس، والسنة في الشرع في الذكر أن الإنسان لا يبالغ فيه برفع الصوت، كما قال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:١١٠]، وقال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:١٩]، فقالوا: تجتنب المبالغة في رفع الصوت، إلا ما ورد النص به كالتلبية، فترفع صوتك حتى تبالغ بها ولا حرج؛ لأن الصحابة كانوا إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم، وهذا لا شك أن ورود السنة به هو مقصود في العبادة، وقال عليه الصلاة والسلام: (الحج العج والثج) فهذا مخصوص، لكن بالنسبة للأذكار تبقى على الأصل من تحري السنة وعدم المبالغة في الرفع، فيرفع صوته على الحالة الثانية، وهي الرفع المعتبر الذي يسمع به من وراءه، وبناءً على ذلك فإذا حصل مقصود الشرع من الإعلام فإنه يقتصر عليه المكلف.

ومن هنا كان من الخطأ ما يفعله بعض المصلين حينما يأتي والناس في المسجد، ويريد أن يصلي تحية المسجد، فتجده يكبر تكبيرة الإحرام بلفظ مزعج وملفتٍ للأنظار، ولربما يشوش على غيره، ويجعل الناس يلتفتون إليه من غرابة ما وقع منه، والصلاة -كما قلنا- فيها سكينة وخشوع، فينبغي للمصلي أن يبتعد عن أذية الناس بها.

وقوله: [كقراءته في أولتي غير الظهرين].

المراد بالظهرين: الظهر والعصر، وهذا من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، والمراد بهذا في قوله رحمه الله: [كقراءته] أن يجهر بالتكبير -أعني تكبيرة الإحرام- كما يجهر بقراءته في الأوليين من صلاة المغرب والعشاء، وكذلك الفجر، فالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في صلاتي الصبح والمغرب والعشاء، يجهر في الأوليين من العشاء وكذلك المغرب، وفي صلاة الفجر كلها، فالسنة أن يرفع صوته ويجهر.

وهنا ينبه على أمرٍ ينساه كثير من الناس، أو يغفلون عن حكمه، وهو أن الإنسان ربما تفوته صلاة الفجر، أو تفوته ركعةٌ وراء الإمام فيقوم للقضاء، فلا تسمع من يرفع صوته بالقراءة، وهذا كثير بين الناس إلا من رحم الله، فبسبب الجهل تجدهم يقومون ولا تسمع أصوات القراءة، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فصلاة الفجر كلها جهر، ولذلك ليس من السنة الإسرار في الجهري، ولا من السنة الجهر الكلي في السري، أما كونك في السر ترفع صوتك بالآية والآيتين فلا حرج، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ملازمة الجهر في السري كله فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والعصر معاً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>