للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الصلاة بحضرة الطعام المشتهى]

قال رحمه الله: [أو بحضرة طعام يشتهيه].

حضور الشيء ضد غيابه، وحضرة الطعام هي أي أكلٍ من غداءٍ أو عشاءٍ أو فطورٍ، وقال: [بحضرة]، بمعنى أن الطعام قد حضر، ومفهوم ذلك أن الطعام إذا لم يحضر وجب عليه أن يصلي، فمحل النهي في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصلي أحدكم بحضرة طعام)، إذا كان الطعام موجوداً والنفس جائعة بحيث تميل إليه، وبناءً على ذلك فإذا كان لا يشتهيه كأن يكون شبعاناً، أو تكون نفسه لا تميل إليه فإنه حينئذٍ يُصلِّي ويصيب فضل الصلاة في أول الوقت لما ذكرناه.

وبنى العلماء على هذا لو أذن المؤذن وعشاء الإنسان بين يديه فإنه يقدم طعام العَشاء على العِشاء، لظاهر السنة: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدأوا بالعَشاء قبل العِشاء).

فدل على أنه يجوز للمكلف أن يتخلَّف عن الجماعة، ولكن بشرط أن لا يجعل ذلك إلفاً له وعادة، وإنما أن يحصل ذلك على سبيل الموافقة لا على سبيل القصد، وفرقٌ بين الموافقة وبين القصد.

والقصد: أن يُهيِّء طعامه على وجهٍ يعلم أنه سينتهي به عند حضور وقت الصلاة، فحينئذٍ يُعتَبر إخلالاً؛ لأن المقاصد مُعتبرة، فالقاعدة أن الأمور بمقاصدها، كما دلّ على اعتبارها حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات)، فلما وضع الطعام عند وقت الأذان أو عند وقت الإقامة دلّ على أنه قَصَد أن يُفوِّت إجابة النداء، فحينئذٍ شُدِّد في حقه، والقاعدة عند العلماء أنه يُعامَل بنقيض قصده، ويجب عليه أن يصلِّي مبالغةً في النكاية به، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.

فالمقصود أنه إذا حضر الطعام وحضرت الصلاة فإنه يقدم الطعام على الصلاة.

لكن هنا مسألة، وهي مسألة فطور الصائم، فبعض الناس -أصلحهم الله- يضعون الطعام الكثير، ويبالغون في إفطار الصائم إلى درجةٍ يفوتون بها على الناس إدراك الجماعات، ولربما تفوتهم الركعة الأولى وهم مشتغلون برفع الطعام، وربما يكون بعضهم مشتغلاً بإصابته، وهذا لا شك أنه منهيٌ عنه؛ لأن النصوص دالة على أن من دخل المسجد يجب عليه أن يدخل مع الجماعة، وقد ثبتت النصوص بذلك حتى على من صلى، وقد أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم من صلى في بيته أن يعيد في المسجد، كل ذلك حتى لا يشذ عن الجماعة، وإعمالاً للدخول مع الجماعة، فكون الصائم يضع هذه السُّفَر على وجهٍ يخِلُّ أو يؤدي إلى الإخلال لا شك أنه يعتبر آثماً من هذا الوجه، ولكن يفطر الصائم بالوجه المعروف، كأن يضع الطعام اليسير الذي ليس فيه إشغالٌ للصائم عن فرضه من أداء الجماعة والقيام بما أوجب الله عليه من الصلاة.

فالمقصود أنه ينبغي تنبيه الناس في إفطار الصائم، ولا شك أن الناس -إن شاء الله- نيتهم صالحة نحسبهم ولا نزكيهم على الله، وبعضهم يقول: إني أريد أن أصيب فضل تفطير الصائم قبل المغرب لا بعد المغرب.

ولا شك أنه إذا كان يريد إصابة هذا الفضل أنه سيضيع واجباً أهم مما هو مشتغلٌ به؛ فإن العلماء اتفقوا على أن تحصيل الفضائل لا يكون على حساب المنهيات، وهذا منهي عنه، ولربما أدى ذلك إلى إفساد فرش المساجد وغير ذلك مما لا يخفى، بل إنه يبالغ فيه إلى درجةٍ أن يزعج المصلين أثناء الركعة الأولى، فلا تسمع إلا اللغط، ولربما تسمع الكلام الذي يكون بسببه انشغال الناس عما هم فيه من الإقبال على الله عز وجل، فجميع هذه المفاسد تدل على أن طلبه لهذه الفضيلة لا يُعتبر شرعاً لوجود هذه الإخلالات.

وبناءً على ذلك نقول: يفطر الناس على التمرة والشربة، ثم بعد الصلاة يمد لهم ما شاء من الطعام والله يَأْجُره، فإنه على خير؛ لأنه امتنع من وضع طعامه كله لأمر الشرع، فإذا وضعه بعد الصلاة لا شك أنه يصيب الفضل إن شاء الله تعالى والله يأجره على حُسن نيته، فيُنَبَّه الناس على ذلك، وينبغي على الأئمة أن ينصحوا الناس.

ولقد رأينا -خاصةً في هذه الأزمنة- أموراً عجيبة مما ذكرناه، من التشويش على المصلين وأذية المساجد في فرشها؛ لأنه ربما يستعجل إلى درجةٍ يصيب بها الفراش، فيبقى الطعام على الفراش ولربما يُنْتِنُه، ولربما يؤذي المصلي بهذا النتن، فكل هذه المفاسد الموجودة مع ما فيها من إضاعة الركعة الأولى وفضل التأمين وراء الإمام، وإصابة أول الوقت بالتكبير تدل على أنه ينبغي تنبيه الناس على مثل هذا الأمر ونهيهم عنه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>