للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر أبو بكر حتى كان التمكين]

من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وظهرت فتنة الردة بصورة تكاد أن تلتهم الأخضر واليابس، من كان يظن في هذا اليوم العصيب الذي جسده عروة بن الزبير رضوان الله عليه وقال: [كان المسلمون كالغنم المبعثرة في الليلة الشاتية الممطرة؛ لفقد نبيهم ولقلة عددهم وكثرة عدوهم].

انظر إلى هذا الواقع، وإلى هذا الحال، مات النبي فارتد كثيرٌ من العرب، وظهرت فتنة الردة، وفتنة من يدعي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ذهب أحد المسلمين لـ أبي بكر رضي الله عنه ليقول له: يا خليفة رسول الله! الزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فماذا قال الرجل الذي يزن في ميزان الرجال أمة؟ ماذا قال الصديق الذي قيضه الله للأمة يوم الردة كما قيض الله للأمة أحمد بن حنبل يوم المحنة؟ أبو بكر الذي يكاد القلب يهتز حياءً ووجلاً من هذا الرجل؛ لأن التاريخ قد ظلمه، فكم من المسلمين الآن لا يعرف عن أبي بكر الكثير! بل ولست مبالغاً إن قلت: والله لا يعرف كثيرٌ من المسلمين عن أبي بكر إلا القليل، بل ومنهم من لا يعرف عن هذا العملاق شيئاً.

إنه صديق الأمة الذي لخص الإمام ابن القيم حياته تلخيصاً بديعاً فقال وتدبر معي كلامه؛ فلا يتسع الوقت لأقف معك وقفة موجزة مع أبي بكر، فخذ هذا الوصف الدقيق من ابن القيم رحمه الله تعالى، يقول في حق أبي بكر رضي الله عنه: هذا هو أبو بكر الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار؛ فألقى له الصديق حب الحُب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة وتركه هنالك، ثم علا الطائر على أفنان شجرة الصدق يغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح وهو يتلو في قول الصديق قول ربه جل وعلا: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:١٧ - ٢١].

قيض الله للإسلام وللأمة أبا بكر فقال قولته الخالدة: [والله لو منعوني عقال بعيرٍ كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه بالسيوف] وأمر بإرسال وبإنفاذ بعث أسامة.

قالوا: يا خليفة رسول الله! لقد ظهرت فتنة الردة، وظهر مدعو النبوة، ولا داعي الآن لأن ترسل هذا الجيش، ولا بد أن يبقى هذا الجيش في المدينة ليؤمنها، فقال الصديق قولته الخالدة: [والله لأنفذن بعث أسامة وإن تخطفتني الذئاب]، وفي لفظ: [وإن جرت الكلاب بين أرجل أمهات المؤمنين لأنفذن بعث أسامة، كيف يبرم رسول الله عقداً ولا أبرمه أنا].

وسار جيش أسامة الذي كان فتحاً عظيماً من الله على أبي بكر رضي الله عنه، حيث أن المرتدين خارج جزيرة العرب قد نظروا إلى هذا الأمر نظرة عجيبة، وقالوا: لولا أن أبا بكر يملك من القوة ومن الجيوش في المدينة ما يستطيع أن يدفع بها الشر عن المدينة ما أرسل بعث أسامة.

انظر إلى الفتح والتأييد والمدد من الله جل وعلا! وانطلق الجيش، وانتهت فتنة الردة، وقيض الله للأمة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وانتهت حروب الردة، وقتل من ادعى النبوة، وخرج الإسلام من هذه الفتنة قوياً شديداً، وفي أول الأمر ظن كثير من الناس أنه لن تقوم للإسلام قائمة.