للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جراح أعقبها النصر والتمكين]

ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد الحروب الصليبية المتكررة، بعد سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وهدم المساجد والبيوت، حتى قيض الله للأمة صلاح الدين -أسأل الله أن يرزق الأمة بـ صلاح الدين - فهزم الصليبيين الحاقدين في معركة حطين، وخرج الإسلام قوياً بعد الحروب الصليبية؟ من كان يظن أن تبقى للإسلام قائمة بعد حروب المغول والتتار، وبعد الهجمة الشرسة التي روعت البلاد والعباد، حتى جسَّد الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى هذه المأساة المروعة، فقال: "لقد انصرفت عدة سنين عن تسجيل هذه الحادثة، فأنا أقدم قدماً وأؤخر أخرى؛ فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين، فليتني لم أولد قبل هذا اليوم وكنت نسياً منسيا".

حتى قيض الله للأمة البطل الفاتح قطز، فحرر البلاد والعباد، وخرج الإسلام من هذه الأزمة الطاحنة قوياً شديداً صلباً؟ ومن كان يظن أن تبقى في وقتنا المعاصر امرأة بوسنية واحدة، أو رجلٌ بوسني واحد، أو طفلٌ بوسني واحد، لقد قرر جميع الخبراء العسكريين مع بداية حرب البوسنة منذ ثلاث سنوات تقريباً أن الحرب لن تستمر أكثر من أسبوع، وسيفني الجيش الصربي شعب البوسنة، ووالله لو علم الصرب أن هذه الحرب ستعيد الإسلام من جديد إلى هذه الأرض، وسترد كثيراً من البوسنيين إلى الإسلام، والله ما أطلق الصرب على البوسنيين رصاصة واحدة.

انظروا إلى المحن! {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣] إنه التمحيص: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].

انتهت الآن الحرب البوسنية وإن كانت في الواقع والحقيقة لم تنته بعد -أسأل الله أن يضمد الجراح، وأن يسكن الآلام- وبقي البوسنيون، بل وعاد الكثير من البوسنيين إلى الإسلام، بل ورفع اسم الإسلام في هذه المنطقة ودب الرعب في قلوب هؤلاء، مع أن المسلمين في قمة الضعف والذل والهوان.

من كان يظن أن تستمر الحرب في الشيشان إلى يومنا هذا؟ لأنه بكل أسف حينما يتناول كثيراً من دعاتنا كثير من هذه القضايا، يطرح دائماً وأبداً جانب السلبيات فحسب، ولو نظرنا إلى هذا النصر العظيم في مقابل قوة أهل الباطل، وحجم أهل الباطل، وما يملكون من عتاد وسلاح، لكان ما يحققه المسلمون من نصرٍ زهيدٍ -في أعيننا ونظرنا- لكان هذا النصر نصراً عظيما بالمقارنة إلى حجم وقوة أعداء الدين.

فينبغي ألا ننظر بمنظار قاتم على طول الخط، ولا مانع من أن نشخص الداء، ولكن ينبغي أن نصف الدواء، ولا مانع من أن نبين المرض، لكن لا يمنع على الإطلاق في الوقت ذاته أن نقول بأن هناك بوادر للشفاء، وللأمل، وللخير، فهذه الفتن ما ضرت الإسلام قط، بل هذه الفتن في صالح الإسلام، كيف ذلك؟! إنه التمحيص، حتى لا يثبت على الصف ولا يحمل هذه الراية إلا الرجال الأطهار الذين هم أهل لأن يكونوا من حواري وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يحملون الدعوة ويتاجرون بها في سوق الشهوات؛ تشترى منهم أو لا تُشترى؛ فهؤلاء لا يصلحون ابتداءً أن يكونوا أصحاب رسالة، فإذا ما هبت عاصفة أو فتنة سرعان ما تبعثر هؤلاء كما تتفرق الفئران، وهذه من رحمة الرحيم الرحمن؛ ليبقى على الصف من صفت نفسه، وخلصت سيرته، وطهر الله قلبه؛ ليرفع راية لا إله إلا الله كيف لا وأنت ستمضي على طريق محمد بن عبد الله.

فإن الطريق ليس هيناً لينا، وليس مفروشاً بالورود ولا بالرياحين، وهأنذا ألخص لك الطريق أيها الحبيب المبارك في كلماتٍ حتى لا تُنسى، وأقول لك: إن سلكت طريق الدعوة إلى الله ورأيت أن الطريق ممهدة، وأنها مفروشة بالورود والزهور والرياحين؛ فاعلم علم اليقين أنك قد ضللت الطريق، وابتعدت عن طريق محمد ونوح وموسى وعيسى وكل الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.

الطريق بينٌ واضح، فتن ومحن وابتلاءات للتمحيص والتمييز، ليثبت على الصف الخالصون المخلصون، أسأل الله أن يشرفنا وإياكم أن نكون منهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أيها الأحبة: من كان يظن أن تبقى الحرب الشيشانية إلى يومنا هذا، والشيشان شعبٌ صغير أعزل، يحارب القوة الثانية في العالم كله؟ بل ومن كان يظن أن الأفغان يخرجون الدب الروسي الغبي الوقح بعد هذه السنوات الطوال؟ ولكن بكل أسف! رأينا ما رأينا يوم أن دبت الفرقة والخلاف بين القلوب والصفوف؛ فسقط على كابول من الصواريخ والقنابل ما لم يسقط عليها طيلة الحرب مع الروس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! وهذه أيضاً سنةٌ ربانية فمحالٌ أن يتنزل النصر مع الخلاف، ومحالٌ أن تتنزل السكينة مع التشرذم والتهارش، ولا يختلف اثنان ممن يعملون الآن على الساحة الإسلامية في أن العقبة الكئود الأولى في طريق العمل الإسلامي هي: عقبة التشرذم والتهارج والاختلاف والبعد عن المنهج: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦] أي: تذهب قوتكم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:١٠٥].

من كان يظن أيها الأحبة أن تستمر الحرب إلى الآن، بل ويكبد المجاهدون الشيشان الروس الخسائر الفادحة؟