للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من حقوق الأخوة طهارة القلب من الغل والحقد والحسد]

الحق الثاني من حق الأخ على أخيه: ألا يحمل الأخ على أخيه غلاً في صدره ولا حقداً ولا حسداً؛ لأن المؤمن سليم الصدر، طاهر النفس، زكي النفس، تقي القلب، نقي القلب.

المؤمن ينام على فراشه من الليل وهو يشهد الله في عليائه أنه لا يحمل ذرة غل أو حقد أو حسد على مسلم على وجه الأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيحين من حديث أنس -: (لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا -عباد الله- إخواناً).

فالحقد والحسد من أخطر أمراض القلوب والعياذ بالله! فقد يرى الأخ أخاه في نعمة فيحقد عليه ويحسده، ونسي هذا الجاهل أنه ابتداءً لم يرض عن الله الذي قسم الأرزاق، فمن الذي وهب؟ إنه الله، ومن الذي أعطى هذا العلم، وأعطى هذا المال، وأعطى هذه الزوجة الصالحة، وأعطى هذا الولد الطيب، وأعطى هذا الحلم، وأعطى هذا الفضل؟ إنها أرزاق قسمها الرزاق، فالذي يحسد إخوانه هو في حقيقة الأمر معترض على الله جل جلاله، فليتق الله، وليتب إلى الله، وليعد إلى الله سبحانه، وليسأل الله الذي وهب هذا أن يعطيه من فضله وعظيم عطائه، كما أعطى إخوانه من عظيم فضله وواسع عطائه.

والحسد من خصال اليهود، فكل منا ينقب الليلة في قلبه، ابحث في قلبك يا من تستمع إلي الآن! ويا من تستمع إلي بعد ذلك عبر شريط الكاسيت! فأنا لا أخاطبكم أنتم فقط، بل أخاطب ملايين الأمة ممن يسمعون هذا الشريط، فكل ينقب في قلبه، هل خلا قلبك من الحقد؟ وهل طهر قلبك من الغل؟ وهل طهر قلبك من الحسد؟ هل رددت هذا الدعاء مع هؤلاء الصادقين: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠]؟ فردد هذا الدعاء مع هؤلاء بصفاء، وصدق، وعمل، قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:٩ - ١٠].

فلماذا الحقد والحسد، وصاحب الفضل هو الله، والذي يقسم الأرزاق بعدله هو الله؟ هل تشك في عدل الله؟ سل الله الذي أعطى إخوانك أن يعطيك من فضله، وهو الواسع العليم.

روى أحمد في مسنده بسند جيد من حديث أنس قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فخرج علينا رجل تقطر لحيته من أثر الوضوء، وقد أخذ نعليه بشماله، فدخل فصلى وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فدخل الرجل نفسه، وفي اليوم الثالث قال النبي كذلك، فانطلق وراءه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا أخي! لقد تلاحيت مع أبي -أي: تشاجرت مع أبي- وأقسمت ألا أبيت في داره ثلاث ليال، فإن رأيت أن أبيت هذه الليالي معك فعلت، قال: نعم أفعل -فبات عبد الله بن عمرو معه؛ ليراقب هذا الرجل في عمله فيقتدي به؛ ليكون من أهل الجنة، كما قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦] فهم كانوا يتسابقون في الخيرات لا في كشف العورات، ولا في هتك العورات.

قال:- فكان عبد الله بن عمرو يراقب الرجل، فلم ير كثير عمل، ولم ير الرجل يقوم من الليل، إلا أنه إذا استيقظ من نومه ذكر الله ونام، حتى إذا حان وقت صلاة الفجر قام فصلى الفجر -يحافظ على الصلاة في بيت الله خلف رسول الله- ولا يتكلم إلا بخير، فلما انقضت الليالي قال له ابن عمرو: يا أخي! والله! ما تلاحيت مع أبي، ولكن رسول الله قال كذا وكذا، وأنا أتيت لكذا وكذا فلم أر شيئاً، فقال الرجل: هو ما رأيت، فلما انصرف نادى عليه وقال: هو ما رأيت إلا أنني أبيت ولا أحمل لأحد من المسلمين في قلبي غشاً ولا حقداً ولا حسداً، فقال عبد الله بن عمرو: هذه هي التي بلغت بك) إنها سلامة الصدر للمسلمين؛ ولذا -يا أخي- أنا بشر وأنت بشر، فلا تعكر صفاء قلبي لإخواني بكلمات من عندك، ولا تعكر حب أخيك لأخ من إخوانه بنميمة خبيثة بحجة أنك تنصحه! الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب أسلم صدر على وجه الأرض، وصاحب أطهر قلب- كان يأمر أصحابه ألا يخبروه بشيء عن أصحابه؛ حتى يخرج إليهم وهو يحمل للجميع صدراً سليماً، وقلباً طاهراً نقياً، إنها أخلاقيات لا توجد الآن إلا بين القلة القليلة من الموحدين الذين عرفوا قدر الأخوة الصادقة في الله.