للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعرف الحق تعرف أهله]

أيها الأحبة الكرام: أكتفي بقاعدة أخرى ثانية من قواعد ترشيد الصحوة الإسلامية المباركة، وهي من أهم القواعد التي يحتاجها أبناؤنا وأحبابنا وإخواننا من أبناء هذه الصحوة، ألا وهي: اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق.

ومن أروع ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل.

إننا نريد من أبناء الصحوة تحرراً، لا نريد تعصباً بغيضاً أعمى، لا للجماعات ولا للأفراد ولا للشيوخ ولا للمناهج، بل نريد من شباب الصحوة تعصباً وتمسكاً بالحق وللحق.

لماذا؟ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، فإننا لا زلنا نرى من بين أبنائنا وأحبابنا وإخواننا من يتعصب لجماعته، فجماعته هي جماعة المسلمين، وهي وحدها التي على الحق وما عداها من الجماعات فهي على الباطل؛ ولذا فإن كل ما يصدر عن جماعته فهو شرعي، كل ما ينتج عنها من نظريات، ومن أفكار وفتاوى نظرية، أو حتى اجتهادات حركية؛ هو الشرعي، وهو الصواب، وهو الصحيح، ومن ثم فإن شيخه في هذه الجماعة هو الأوسع علماً، وهو الأنصع حجة، وهو الأقوى بياناً، وهو الأعظم دليلاً، حتى ولو لم يكن عند شيخه دليل يقنع، ولا علم يشبع، ومن ثم فهو لا يقبل في شيخه نقداً ولا مراجعة على الإطلاق، وهذا -أيها الأحبة- من التعصب الذي لا يقره الإسلام، ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وحذر منه الله تبارك وتعالى.

لماذا؟ لأن نتيجة هذا التعصب ظاهرة لكل أحد، ولا يمكن على الإطلاق أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام، وأن نبرئ بعض أفراد الصحوة الإسلامية من هذا الداء العضال، ومن هذا المرض الفتاك الخطير، لا ينكر هذا المرض إلا أحد جلس ينظِّر للحركة الإسلامية المعاصرة من برج عاجٍ، أو من مكتب مغلق مكيف.

إن هذا الواقع نعيشه ونحياه، وإن هذا التعصب شتت الصف، وزرع بذور العداء، وبذر بذور الخلاف، ولابد من التعالي على هذا التعصب، لابد من التحرر منه والتخلص منه، وذلك لا يكون إلا بتجرد القلوب لله جل وعلا، وبأن ننطلق في أعمالنا ودعوتنا قاصدين وجه الله، لا نريد قومية ولا عصبية ولا راية ولا شارة، ولا ندعو لمصلحة أو مغنم، ولا ندعو لتملق أو هوى، إنما ندعو إلى الله جل وعلا وحده، بفهم سلف الأمة الصالح، والله إن هذه الدعوة تجمع القلوب، وتوحد الصفوف، وتزيل بذور العداء والشقاق والنزاع من بين هذا الصف، وإننا لعلى يقين جازم أن أعداء الإسلام قد فشلوا في الوصول إلى قلب الصحوة الإسلامية من الخارج، ولكنني على يقين أنهم يستطيعون أن يدخلوا إلى قلب الصحوة من داخلها، ببذر بذور العداء والخلاف بين أفرادها؛ امتثالاً عملياً لمقولتهم الخبيثة الخطيرة التي تقول: لابد أن يتسبب في قطع الشجرة أحد أغصانها، فلابد أن نكون على مستوى هذه المؤامرة، ولابد أن نكون على مستوى هذه الأمانة وعلى مستوى هذا الدين؛ بالتحرر من التعصب البغيض الأعمى لأي أحد، بل إننا يجب أن نتعصب للحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذي يعرفون بالحق، ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه يقول: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي من أجله غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل إن هذا من فعل أهل البدع والأهواء الذين ينصبون للأمة شخصاً أو كلاماً يوالون ويعادون عليه، ويفرقون به بين الأمة.

ويقول شيخ الإسلام في موضع آخر من مجموع فتاويه المبارك: ومن تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه، كالرافضي الذي يتعصب لـ علي، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي، فمن تعصب لواحد بعينه من الأئمة ففيه شبه من هؤلاء، وهذه طرق أهل البدع والأهواء.

أيها الحبيب! اعرف الحق تعرف أهله، وينبغي أن نتعالى وأن نتجرد في دعوتنا لله جل وعلا، وأن نخلص أعمالنا لله عز وجل، لاسيما إذا علمنا أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن.

لأنه ما ابتغى بعلمه ولا بقرآنه الله جل وعلا، وإنما عمل من أجل الزعامة، أو من أجل الريادة، أو من أجل القيادة، أو من أجل السمعة، أو من أجل الشهرة، أو من أجل أن يقال: إنه داعية وإنه عالم، وإنه قارئ، أو إنه منفق، أو إنه مجاهد وقد قيل، فيأمر الله جل وعلا به فيسحب على وجهه في جهنم والعياذ بالله.

وفي الصحيحين من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).

أيها الحبيب! لابد من التجرد والإخلاص لله جل وعلا، أسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين ومن المتجردين في أقوالهم وأفعالهم لله رب العالمين.

أيها الأحبة! ينبغي أن تتحرر الصحوة من هذا الداء ومن هذا المرض، لينتهي هذا الخلاف الذي هو شر كله، ووالله ما ذكر الله الخلاف إلا وحذر الأمة منه، قال الله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:١٠٥]، قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:٤٦] نتيجة حتمية {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦]، وقال الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:١١٨ - ١١٩]، ولقد أخرج الله من رحم من الوقوع في شر وبراثن الخلاف.

فيا أيها الحبيب! لابد أن نكون على مستوى هذا الدين، وعلى مستوى هذه الأمانة، وأن نتحرر من هذا التعصب البغيض الأعمى، وأن نتمسك بالحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، ولقد ذكر الله أهل الكتاب وشهد لهم بالخيرية التي تمثلوا بها، فقال عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:٧٥].