للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من خوف السلف الصالح من الله وإشفاقهم من عذابه]

والله لو وقفنا مع خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وهو أعرف الناس به، وأتقى الناس له، وأخشى الناس منه؛ لرأينا العجب العجاب، ولو وقفنا على حجم الهوة الرهيبة بيننا وبين ما كان عليه نبينا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، لعرفنا قسوة قلوبنا.

فاروق الأمة الأواب عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، كان رضوان الله عليه يخاف الله جل وعلا خوفاً مزق قلبه، وهو الذي لما وضع على فراش الموت دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما وقال: أبشر يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم حكمت فعدلت، ووالله لئن مت اليوم فإن أصحاب رسول الله عنك لراضون.

فالتفت عمر إلى ابن عباس وقال: ذلك ما مَنَّ الله به علي، وإن المغرور والله من غررتموه، فوالله إني لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليّ، والله يا ابن عباس! لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه! يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي والذنوب! تذكر وتدبر قول عمر: والله لو أن لي طلاع الأرض -أي: ملء الأرض- ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه.

وهذا حِبُّ المصطفى وحبيب رسول الله معاذ بن جبل، الذي أقسم له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك).

ماذا يقول معاذ بن جبل حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يبتلى معاذ رضي الله عنه بطاعون الشام، وينام على فراش الموت وهو الشاب الذي لم يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره، فيقول لأصحابه: هل أصبح الصباح؟ فينظر أصحابه فيقولون: لا بعد، -أي: لم تطلع الشمس بعد- فيقول معاذ مرة أخرى: هل أصبح الصباح؟ فيقول أصحابه: لا بعد.

فيقول معاذ: هل أصبح الصباح؟ فيقول أصحابه: لا بعد! فيبكي معاذ بن جبل ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار! وسفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والورع والحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة، فيقول له: أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فيبكي سفيان ويقول لـ حماد بن سلمة: أسألك بالله يا حماد، أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا إمام الدنيا الشافعي رحمه الله تعالى، يدخل عليه الإمام المزني وهو على فراش الموت فيقول له: كيف أصبحت يا إمام؟! فيقول الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولعملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ثم بكى وقال: فلا أدري والله يا مزني أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟! وهذا مالك بن دينار وهو من أئمة السلف الأخيار، كان يقوم بالليل يصلي للعزيزِ الغفار ويقبض على لحيته ويبكى ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة وساكن النار؛ ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟! هل فكرت في المصير يا عبد الله؟! هل فكرت في مصيرك: أتصير إلى الجنة أم إلى النار؟!