للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموت حق]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

ولا زلنا مع كتاب الإيمان، والذي ترجم له الإمام البخاري بقوله: باب اتباع الجنائز من الإيمان.

واسمحوا لي أن أقف مع هذا الباب وقفة طويلة قد تحتاج إلى عشر محاضرات على الأقل، فسأقف في شرح هذا الباب مع كتاب كامل من الكتب المسددة الموفقة الصحيحة المحققة لمحدث العصر وبقية السلف وبركة الزمان أبى عبد الرحمن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وعن المسلمين خير ما جزى عالماً أميناً صالحاً مصلحاً.

سأقف مع كتابه الماتع -بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- (أحكام الجنائز).

فإن المسلمين الآن في أمس الحاجة إلى أن يتعرفوا على هذا الباب من أبواب العلم، لاسيما وقد رأينا كثيراً من البدع في جانب الجنائز.

وسأحاول جاهداً أن تكون هذه السلسلة بعنوان: (أحكام الجنائز) مجموعة متكاملة؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان، أسأل الله عز وجل أن يجعل لها القبول والنفع في الأرض، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وألا يجعل للهوى ولا للشيطان حظاً ولا نصيباً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن ومحمد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها -أو حتى يُصَلى عليها- ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط).

هذا هو الحديث الذي رواه الإمام البخاري في هذا الباب الكريم.

واسمحوا لي قبل أن أشرع في الحديث عن أحكام الجنائز أن أقدم بمقدمة موجزة جداً عن الموت أسأل الله أن ينفع بها.

فالموت حق، وسماه الله في القرآن بالحق فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.

{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] أي: ذلك ما كنت منه تهرب وتبتعد.

تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الغني! يا أيها الفقير! كل باك سيبكى، وكل ناعٍ سينعى، وكل مذكور سينُسى، وكل موجود سيفنى، ليس غيرُ الله يبقى، من علا فالله أعلى.

أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحدَ والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا قال تعالى لحبيبه المصطفى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٤ - ٣٥].

وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].

وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت)، وذكر الموت ليس معناه أن تقول: إن فلاناً من الناس قد مات! كلا، وإنما ذكره معناه: أن نستعد للموت، وأن نعمل للموت، وأن نغرس في هذا الدنيا لما بعد الموت.

إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا نسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.