للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جواز الكشف عن الميت وتقبيله والبكاء عليه]

وأختم محاضرة الليلة بهذا الحكم وهو: ما الذي يجوز لأهل الميت وللحضور أن يفعلوه؟ بعض الناس يظن أنه لا يجوز له أن يكشف عن وجه الميت، ويقولون: إن هذا انتهاك لحرمة الميت! وهذا غير صحيح، بل يجوز للإنسان أن يكشف وجه الميت ويقبله، بل ويجوز له أن يبكي على ميته، فبعض الناس يظن أن تقبيل الميت حرام، وأن كشف وجهه حرام، وأن البكاء عليه هلع وجزع!! فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، يقول: فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه،) عبد الله هو والد جابر رضوان الله عليهما، وهو الصحابي الوحيد الذي كلمه الله كفاحاً، أخبر النبي بذلك ولده المبارك جابر، وقال الله لـ عبد الله: (تمن، فما تمنى والد جابر إلا أن يرجع إلى الدنيا ليقاتل فيقتل في سبيل الله)، والحديث في البخاري ومسلم وسنن النسائي والبيهقي وفي مسند أحمد.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسَنح أو السُنح، -والفتحة أصح عندي وأبلغ، والسنح: مكان في أطراف المدينة- حتى نزل من على فرسه، فدخل المسجد وعمر يكلم الناس ويقول: إن رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي وأرجل المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات، تقول عائشة: فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم النبي -أي: اتجه إلى النبي؛ لأن النبي مات في حجرة عائشة - وهو مسجى ببردة حِبْرة أو حَبِرة، فكشف البردة عن وجهه الأزهر الأنور بأبي هو وأمي، ثم أكب الصديق على النبي فقبله بين عينيه، ثم بكى وقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد ذقتها أو متها- وفى رواية: فقد مت الموتة التي لا تموت بعدها).

إذاً: نأخذ من هذا الحديث أن الصديق كشف الغطاء عن وجه الحبيب وقبله بين عينيه، ولو كان النبي قد نهى عن ذلك ما فعله الصديق رضوان الله عليه.

والحديث رواه البخاري والنسائي وابن حبان والبيهقي.

وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه والبيهقي وغيرهما، وله شاهد بإسناد حسن من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت) وعثمان هذا هو أول من لقب بالسلف الصالح، وهو ممن شهد بدراً، والنبي قال في حق أهل بدر: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهو أول من دفن بالبقيع، تقول عائشة: (كشف النبي الغطاء عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، حتى رأيت الدموع -أي: دموع النبي-تسيل على وجنتيه) عليه الصلاة والسلام.

ومن أهل العلم -من باب الأمانة العلمية- من يضعف هذا الحديث، لكن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى يحسن هذا الحديث بشواهده، وهل المقصود بوجنتيه: وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم أم وجنتي عثمان؟ كلاهما محتمل.

وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئراً لـ إبراهيم عليه السلام والظئر: هو زوج مرضعة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك على إبراهيم وهو يجود بنفسه -يحتضر- فجعلت عينا رسول الله تذرفان -بكاءه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! يعني: أتبكي كما نبكي؟! فقال عليه الصلاة والسلام: " يـ ابن عوف! إنها رحمة، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون) رواه البخاري ومسلم.

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم) والحديث رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح على شرط مسلم.

إذاً: لا حرج على من أراد أن يقبل الميت بين عينيه، ولا بأس إن كشف الغطاء عن وجهه، ولا بأس أن يبكى عليه، فالبكاء رحمة، لكن المنهي عنه والمحرم أن نقول ما يسخط ربنا جل وعلا، وأن ندعو بدعوى الجاهلية، كأن تقول المرأة: يا جملي! يا سبعي! يا من ترزقني! يا من تفعل كذا وكذا! لا أستطيع العيش بعدك! إلى آخر هذه الكلمات الجاهلية، ومثل أن تلطم المرأة خدها، وتشق جيبها أو ملابسها، كل هذا لا يجوز ولا يليق، وهو محرم في دين الله تبارك وتعالى.

أكتفي بهذا القدر من الأحكام، والله أسأل أن يرحم موتانا رحمة واسعة، وأن يختم لنا ولكم جميعاً بالإيمان، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.