للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كل شيء هالك إلا وجه الله عز وجل]

الحقيقة الأولى في هذا الوجود هي وحدانية الله جل وعلا، وهي أن تقر بهذه الحقيقة وهي لا إله إلا الله، ثم الحقيقة الثانية هي أن كل شيء هالك إلا وجه الله جل وعلا.

(الموت)، من منا يفكر بالموت؟ من منا يذكر الموت؟ من منا يستعد للموت؟ من منا عمل لهذا اللقاء؟ من منا عمل للقاء الله جل وعلا؟ من منا استعد لسؤال الملكين في دار الحقيقة دار البرزخ، دار الصدق، دار الحق؟ من منا استعد؟ ما من يوم يمر علينا إلا ونشيع فقيداً، ما من يوم يمر علينا إلا ويموت بيننا ميتاً أو ميتة، ولكن ربما ذهبنا معه إلى القبور، وربما رأينا الموت حقيقة أمام أعيننا وبين أيدينا؛ ولكن إذا نظرت إلى الناس وجدتهم ينسون الموت، ويتكلمون في أمور الدنيا! هذا هو الحال، ولكن اعلم أيها الحبيب أنه لا مفر لك، وحتى تعلم أنه لا يمكن لأي قوة على ظهر هذه الأرض أن تحول بين الإنسان وبين هذه الحقيقة الكبرى مهما كانت تلك القوة، مهما كان منصبه، ومهما كان جاهه، ومهما كانت أموالك، ومهما كان غناك، فلن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين هذه الحقيقة، إنها حقيقة الموت.

انظر حينما تأتي ساعة الصفر ويقترب الأجل، وتتلاشى اللحظات الأخيرة من عمرك، وتنام على فراش الموت، وحولك أولادك وأحبابك يبكون، والأطباء من حولك يحاولون؛ بذلوا لك كل رقية، وقدموا لك كل دواء، وقدموا لك كل علاج.

فأنت من أنت؟ أنت صاحب الأفعال، وأنت صاحب الجاه، وأنت صاحب السلطان، وأنت صاحب المنصب، وأنت الغني، بذل الأطباء لك كل رقية، وقدموا لك دواء، وبذلوا لك كل علاج، ولكن انظر إليه قد اصفر وجهه، وشحب لونه، وتصبب جبينه بالعرق، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، ويريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح، وينظر إلى من حوله من أحبابه، إلى أهله، إلى أقاربه، فيراهم تارة يبتعدون، وتارة يقتربون، ومرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، ويرى الغرفة التي هو فيها والفراش الذي هو ممتد عليه، يرى هذه الغرفة تتسع مرة كالفضاء الموحش، ومرة تضيق فتصير كخرم إبرة، وهو بين هذه السكرات، وبين هذه الكربات، وفي هذا الحزن الشديد.

فلقد فاتته الآمال ولم يحققها، بنى داره وجهد واجتهد وكنز الأموال، فهو بين حزن شديد على ما فات وبين غم شديد على أنه لا يدري ما الذي سيلاقيه بين يديه من هذا العالم الجديد، عالم البرزخ الذي سيترك عالم الدنيا ويدخل إلى هذا العالم بعد الموت.

هو في هذه السكرات، وفي هذه الكربات، وبين هذا الغم والهم، ينظر فجأة فيرى ملائكة من بعيد تقترب، يا ترى أهذه الملائكة التي أراها هي ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! يا ترى هذا الذي جلس عند رأسي ملك الموت ينتظر الأجل أن يوفى من الله كما قدر الله جل وعلا؛ هل سينادي على روحي ويقول: يا أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض غير غضبان، أم سينادي ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة أخرجي إلى سخط الله وعذابه؟ يا ترى هل ستكون حفرتي روضة من رياض الجنة أم ستكون حفرة من حفر النيران؟ بين حزن شديد على ما فات، وبين غم شديد؛ لأنه لا يدري ما الذي سيلاقيه، ما الذي سيكون بين يديه.

ينظر إلى أولاده وإلى أحبابه وإلى أهله الذين التفوا من حوله يبكون، فينظر إليهم حينما يفيق بين السكرات والكربات نظرة كلها استعطاف، نظرة كلها شفقة، نظرة كلها رجاء، نظرة كلها رحمة، نظرة كلها سؤال، ويقول لهم: يا أولادي، يا أحبابي- فدوني بأعماركم، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، أنا صاحب الأموال، أنا الذي بنيت الدور، وأنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي جمعت المال، وأنا الذي جهدت واجتهدت، فافدوني بأعماركم، زيدوا في عمري ساعة أو ساعتين، أريد أن أستمتع بالأموال، أريد أن أستمتع بالسيارات، أريد أن أستمتع بالعمارات، ولكنه في واد والناس في واد آخر!