للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجهر بالدعوة]

واستمرت المرحلة السرية في الدعوة إلى الله ثلاث سنوات، كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله جل وعلا تحت السراديب، يدعو إلى الله جل وعلا تحت باطن الأرض لا على ظهرها، حتى نزل الأمر من الله جل وعلا ثانية يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن دعوته وأن يجهر بها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل قول الله جل وعلا: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤]، يقول ابن مسعود: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه).

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤]، تبدأ من هنا المرحلة الثانية من مراحل الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهي المرحلة العلنية أو الجهرية، ونزل قول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٢١٤ - ٢١٥]، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا بمكة المكرمة، والحديث رواه البخاري وغيره: (صعد على الصفا ونادى على بطون قريش يا بني عدي! يا بني فهر! -وفي رواية-: وضع أصبعيه في أذنيه وظل يصرخ بأعلى صوته، واصباحاه واصباحاه! فاجتمع إليه الناس، واجتمعت إليه بطون قريش، حتى إن الرجل الذي عجز عن أن يذهب بنفسه وكل رسولاً يذهب عنه ليخبره ما الخبر، ووقف الناس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فأقام عليهم الحجة ابتداءً- وقال: (أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط، فقال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، وفي رواية في الصحيح: إنما أنا النذير العريان، أي: الذي لم يمهله الوقت ليرتدي ثيابه، فجاء عرياناً لينذر قومه من النار.

وكان أول من رد عليه عمه أبو لهب نظر إليه نظرة يتطاير منها الشرر الذي قتله وأحرقه بعد ذلك وقال له: (تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!)، أي: أجمعتنا من أجل هذا الكذب ومن أجل هذا الهراء؟! أنت رسول الله إلينا؟! أنت نذير إلينا من عند الله جل وعلا؟! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله جل وعلا: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:١ - ٥]، يقتص الله جل وعلا فورياً لحبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وهنا كأن صاعقة برقت ورعدت وزلزلت أرجاء مكة، وبدأت طبول الحرب تدق بأعلى قوة على محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ ما جاء يطلب مالاً، ولا يطلب جاهاً، ولا يريد سلطاناً، ولا يريد ملكاً، وإنما جاء بخيري الدنيا والآخرة، جاء ليخرجكم من ظلمات الشرك والكفر والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان، وهكذا كل من يدعو إلى الله يصنع به ذلك.

نعم، إنها سنة قديمة حديثة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:٢٩ - ٣٢].