للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقارة الدنيا وقصر عمرها]

أيها الإخوة والأخوات! أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، أرحام تدفع، وأرض تبلع، مثلهم كمثلِ أمواج بحر متدفقة متلاحقة، إذا انكسرت على الشط موجة تبعتها موجة أخرى، أو كمثل نهر متدفق تراه دائماً يجرى مع أن الماء الذي تراه اللحظة غير الماء الذي رأيته قبل لحظة، وحتماً سيأتي اليوم الذي ينتهي فيه الوجود الإنساني كله، فتنطفئ نجوم الليل، وتتوقف موجات البحر، بل وتجف مياه العيون والآبار، ويقوم الجميع ليقفوا بين يدي العزيز الغفار؛ كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:٤٨].

أيها الأحبة الكرام! أستهل هذه السلسلة اليوم بالحديث عن الموت، فهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الطويلة.

أيها الأخيار! لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التي من أجلها خلقنا فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].

وبين لنا حقيقة هذه الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠].

وأكد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في حديثه الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال الحبيب: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

فالدنيا حقيرة عند الله، أعطاها للكافر والمؤمن على السواء، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ لذا كان المصطفى يوصي أصحابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار، كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري أنه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.

ورحم الله من قال: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا