للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقومات الحضارة]

أيها الأحبة: لابد للحضارة من عنصرين ألا وهما: العنصر المادي، والعنصر الأخلاقي.

ونحن لا ننكر ألبتة ما وصلت إليه الحضارة الغربية في عالم المادة، فليس من الإنصاف ولا من التعقل أن ننكر ذلك، بل إننا نثبت ذلك للحضارة الغربية في عالم المادة، ونقر بأن الرجل الغربي قد انطلق بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وانطلق بعيداً بعيداً في أعماق البحار والمحيطات، وفجَّر الذرة، وصنع القنبلة النووية، وصنَّع القنابل الجرثومية، بل وحوَّل العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات.

لا ننكر ذلك أبداً، ولا نتجاهل هذا، ولكننا على يقين جازم أن الحياة ليست كلها مادة، فلو استطاع طائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد فلن يستطيع أن يواصل طيرانه وتحليقه، وإنما سيسقط حتماً لينكسر جناحه الآخر، وإن طالت مدة طيرانه في هذا الفضاء الفسيح.

الحياة ليست مادة فحسب، بل لابد للجانب الأخلاقي من تواجد فعال في هذه الحضارة، فالحضارة المادية التي وصلت إليها الحضارة الغربية ما استطاعت أن ترتقي بالإنسان -ابن هذه الحضارة- إلى طهارة إنسانيته أو إلى وضاءة آدميته، بل ما استطاعت أن توفر لابن هذه الحضارة سعادة البال، وانشراح الصدر، وطمأنينة النفس، بل يقف علماء النفس والطب في حيرة ودهشة أمام هذه الحالات المتزايدة لعدد المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، وأمام هذه الحالات الهائلة للانتحار الجماعي في مثل هذه البلاد المتحضرة، التي وصل فيها الإنسان إلى ما وصل إليه في جانب المادة كما تعلمون وكما ترون وتسمعون، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٤ - ١٢٧].

لقد عجزت الحضارة المادية أن ترتقي بإنسانها -ابن هذه الحضارة الخاوية الروح- إلى السعادة إلى انشراح الصدر إلى راحة الضمير إلى طمأنينة النفس وراحة البال، عجزت؛ لأن الروح لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع للتجارب المعملية في أحد المعامل، فهذه الروح يعجز أي إنسان على هذه الأرض أن يقدم لها المنهج الذي يرقيها ويغذيها، إذ لا يستطيع أن يقدم لهذه الروح منهج صلاحها وفلاحها في الدنيا والآخرة إلا خالق هذه الروح، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].