للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحضارة الإسلامية والنزعة الأخلاقية]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها الأحبة! عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: الحضارة الإسلامية والنّزعة الأخلاقية، وستعجب إذا قلت لك أيها الحبيب: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى عَلَى أرض المعارك وفي ميادين الحروب، مع أن رؤية الدم تثير الدم، ومع أن القتال يثير الحمية في النفوس والانتقام، وبالرغم من ذلك كله أقول: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى في ميادين القتال والحروب الله أكبر.

(يغضب النبي حينما يرى امرأة قد قتلت في الميدان، ويأمر الصحابة ألا يفعلوا ذلك)، ويأمر الصديق جيش أسامة ويقول: لا تقتلوا شيخاً، ولا امرأة، ولا رجلاً تفرغ للعبادة في صومعته، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا بقرة إلا للأكل.

هذه مُثُلُ الإسلام حتى في عالم الحروب والمعارك.

بل ولا يعلم التاريخ أحداً فُعلَ به من الأذى والاضطهاد ما فُعلَ في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوذي في مكة وضع التراب على رأسه وضعت النجاسة على ظهره خنق حتى كادت أنفاسه أن تخرج طرد من بلده حرم من بيته وماله أوذي أصحابه أشد الإيذاء، وبالرغم من ذلك، وبعد أن ترك بلده ووطنه وهاجر إلى المدينة ما تركه المشركون حتى في المدينة، بل جردوا عليه السيوف ورفعوها، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً في يوم فتح مكة، ووقف أهل مكة جميعاً بين يديه، قال لهم صاحب الخلق: (ماذا تظنون أَنِّي فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أقول لكم ما قاله أَخِي يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:٩٢]، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وللأمانة العلمية أقول: إن هذا الحديث ضعيف.

سبحان الله! حتى في هذه الأوقات الحرجة؟! انظروا إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: (عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف بعد أن رمي بالحجارة وطرد، وفعل به أهل الطائف أبشع ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، ونزل إليه ملك الجبال وقال له: مرني بما شئت يا رسول الله -فماذا قال صاحب الخلق في هذه الأوقات التي قد يميل القلب فيها إلى التشفي والانتقام، إذ إن الإنسان يشعر بالظلم- فقال: إني لم أبعث لعاناً ولا فحاشاً، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

وطبق الصحابة والمسلمون هذه المبادئ أعظم تطبيق شهدته الأرض وعرفه التاريخ.

انظروا ماذا فعل المسلمون يوم أن امتدت الفتوح الإسلامية إلى بلاد سمرقند في عهد عمر بن عبد العزيز، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي القضاة يخبره بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأنهم دخلوا عليهم عنوة، ولم يفرضوا عليهم جزية، ولم ينذروهم بالقتال، وأرسل قاض القضاة إلى عمر بن عبد العزيز ليخبره بذلك، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أمر قائد الجيوش في سمرقند بالانسحاب فوراً، ولما علم أهل سمرقند أن الجيش قد انسحب بأمر أمير المؤمنين عمر، خرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح المنتصر؛ ليعلنوا جميعاً شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

تاريخ الحروب الإسلامية تاريخ مشرف، فليقرأ الناس التاريخ، وليقفوا جميعاً أمام عبر هذا التاريخ، وأنتم تعلمون ما فعله صلاح الدين بالصليبيين، وتعلمون أنه قدم طبيبه الخاص في أرض المعركة لقائد الحملة الصليبية، لما سمع أنه مريض ولا يوجد من يبذل له الدواء والعلاج، فأرسل له صلاح الدين طبيبه الخاص ليبذل له الدواء والعلاج.

ولما صرخت امرأة نصرانية، ورمت بنفسها على خيمة صلاح الدين في الليل، سألها ما الخبر؟ فأخبرته أن أحد أفراد الجيش قد أخذ ولدها، فأمر صلاح الدين أن يرد الجيش -بأي سبيل- هذا الطفل، ولم يهدأ حتى اطمأن بنفسه أن المرأة قد رد إليها طفلها.

وتعلمون ما فعله محمد الفاتح بالنصارى الصليبيين في كنيسة -آيا صوفيا- حينما فتح القسطنطينية، فعل ما سيقف التاريخ أمامه وقفة إعزاز وإجلال وإكبار.

اقرءوا التاريخ لتعرفوا ما فعله هؤلاء الأطهار الأبرار حتى في المعارك والحروب والميادين.

لقد ضرب الإسلام أروع الأمثال في السماحة حتى في أرض المعارك التي تثير فيها رؤية الدم الدماء، وينتشي القادة الفاتحون بسكرة النصر للتشفي والانتقام، ولكن هذا لم يحدث في ظل حضارة الإسلام التي أصل أصولها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام.