للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر نبي الله أيوب عليه السلام]

أيها الأحبة! إذا ذكر الصبر ذُكِرَ نبي الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة السلام، فلقد ابتلى الله أيوب في ماله وولده وبدنه، ففقد المال كله، ومات جميع أبنائه جملة واحدة، وابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش، فصبر وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عنه سبحانه! لم يسلم من بدنه شيء إلا قلبه ولسانه، أما قلبه فقد امتلأ بالحب لله والرضا عنه سبحانه، وأما لسانه فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة.

ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت).

فالذاكر لله حي، وإن ماتت فيه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت، وإن تحرك بين الأحياء.

لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان فلم يفتر عن ذكر مولاه، واسمع ما قاله لزوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله علي أن أصبر له سبعين سنة وأنا مريض، ففزعت زوجته.

واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله أيوب في البلاء، وأصح ما ورد في هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين وقال الإمام الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه، كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام: والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله) إلى آخر الحديث.

قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب ذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء الحنون الذي سجله الله في قرآنه، فقال جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].

انظر إلى

الجواب

{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:٨٤].

ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا.

إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الملك القدير جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه، ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:٤٢].

أمر الله أيوب عليه السلام أن يشرب، فشرب أيوب من الماء، فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل فشفاه من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:١٧].

أيها المُبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا أيها المبتلى! لا كاشف للبلوى إلا الله سبحانه وتعالى.

قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا قل للمريض نجا وعُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاكا قل للبصير وكان يحذر حفرةً فهوىَ بها من ذا الذي أهواكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى من بين دم وفرث من ذا الذي صفاكا؟! قل إن الأمر كله لله أإله مع الله؟ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب! أما تشبع؟ فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يارب، ومن يشبع من رحمتك يارب).

وهكذا نجّى الله أيوب، ورفع الله عنه البلاء بعد هذه السنوات العجاف بالصبر الصادق.

وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر مَنْ لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال في اقتحام الخطوب والأهوال، الذين انساقوا وراء الاسرائيليات التي شُحنت بها قصة أيوب في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض في أن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود، وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى، وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة اشمأز الناس منها، وانصرف الناس عنه، وهذا كله كذب عريض، وحقير وخطير، تنكره العقول السليمة، والطباع الكريمة التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله من مثل هذا، فاعلم -أيها المسلم- أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بهذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش، وأقعده في الأرض.

وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر؟ وأين الصابرون؟ أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:٤٢ - ٤٣].