للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الطريق إلى الجنة وماهيته]

السؤال الأخير الذي طرح في الخطبة: ما الطريق إلى الجنة؟

الجواب

الطريق إلى الجنة هو أوامر الإسلام ونواهيه وحدوده، أي: الامتثال للأمر، والاجتناب للنهي، والوقوف عند الحد، وبعد ذلك اذكر ما شئت من الأعمال، لكن هذا المعنى من حيث الجملة أنك تتمثل الأمر، وتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).

(حفت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطاعة ثقيلة على النفس، فالجنة محفوفة بالمكاره، أتصبر على المكاره؟ أتصبر على الطاعة؟ أتصبر عن المعصية؟ أتمتثل الأمر؟ أتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله عز وجل؟ هذه هي المكاره التي تدخلك الجنة.

أما النار فحفت بالشهوات، فهل تصبر عن الشهوات: شهوة الفرج، وشهوة البطن، وشهوة الجاه، وشهوة المنصب، وشهوات الدنيا كثيرة، وكذلك الشبهات.

فالطريق إلى الجنة -يا إخواننا- محفوف بالمكاره، وهناك ابتلاءات على الطريق تحتاج منا إلى صبر، فنفسك لها رغبات لابد أن تصبر عنها، وأوامر لله لابد أن تمتثلها، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

والحقيقة أن الجنة درجات، فإذا أردت أن تنالها فلابد أن تجتهد في طاعة الله عز وجل وفي طاعة رسوله.

الذي يخطب امرأة من نساء الدنيا جميلة لو قال أبوها: يا فلان! نريد منك غرفة نوم، وشبكة بكذا، وشقة متكاملة بعشرين ألفاً مهراً، لقال: أنا مستعد، وأنا جاهز، هذا في امرأة من نساء الدنيا يصيبها الحيض والنفاس والبول وكل شيء! فكيف بنساء الجنة؟! ولو وقفت مع آيات القرآن في نعيم الجنة لطال المقام، وهناك مجلد كامل كبير للإمام ابن القيم بعنوان: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)، في هذا الكتاب فصّل المؤلف رحمه الله كل جزئية من جزئيات النعيم الواردة في القرآن والسنة، أما ما أخفاه الله فلا يعلمه إلا الله، وإنما هذا الذي ظهر في القرآن والسنة.

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر -أول فوج يدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر- ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون).

أي: صفتهم: أنهم لا يبولون ولا يتغوطون في الجنة.

وربنا يقول: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:١٤] يعني: القطوف والثمار في الجنة مذللة ميسرة قريبة دانية، فالشخص وهو متكئ على أريكته حينما يشتهي فاكهة معينة تجد الفاكهة مذللة بأمر الله عز وجل في يده.

أما اللحم فيقول سبحانه: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢١].

والخمر من أعظم شراب الجنة، فالذي يمنع نفسه عن خمر الدنيا سيشرب في الآخرة من خمر الجنة، وخمر الجنة يقول ربنا فيها: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩] (لا يصدعون) يعني: لا يصاب من شربها بالصداع والهم والدوخة والدوار، بل هو خمر لذة للشاربين.

إذاً: نأكل ونشرب، فكيف يخرج هذا الأكل والشرب؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج الله عز وجل هذا الشراب والطعام رشحاً على البدن كالمسك)، أي: بدل ما يخرج من القبل والدبر في هيئة بول وغائط، فإنه يخرج مسكاً، فلا توجد مجاري هناك في الجنة، وإنما يخرج رشحاً كالمسك.

وسبحان الله! في الدنيا تجد الإنسان يبذل الكثير من أجل نساء الدنيا مع ضعفهن، بينما الحور العين مع عدم البول والغائط ومع ذلك ليس عنده استعداد أن يبذل للآخرة، فكم نذكر في المحاضرات والدروس بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحرك الجبال، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:٧٤]، ومع ذلك هناك أناس قلوبهم لم تهبط من خشية الله! وهؤلاء كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٧٤].

قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون)، فلا تفل ولا مخاط في الجنة، يا سبحان الله! شيء عجيب جداً! (لا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب)، والمشط ليس لتسريح اللحية؛ لأنه لا لحية في الجنة، ولا يوجد أحد يدخل الجنة بلحية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أهل الجنة مرد -يعني: بدون لحى- كحل)، أي: من غير كحل، (أمشاطهم الذهب، وأزواجهم الحور العين).

فالذي يخطب الحور عليه أن يدفع المهر الآن في الدنيا، فما هو هذا المهر؟ إنه إيمان اتباع عمل صالح جهاد صلاة تسبيح عمارة مساجد مسارعة في الخيرات أمر بمعروف نهي عن منكر دعوة قيام ليل قراءة قرآن صدقة بر والدين، كل هذا يندرج تحت العمل الصالح.

طريق الجنة أنه إذا أمر الله عز وجل بأمر فما عليك إلا أن تمتثل وتقول: يا رب! سمعنا وأطعنا، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم تمتثل أمره وتقول: سمعاً وطاعة يا رسول الله! كذلك حدود رب العزة تجتنبها.

فما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله! فقد يأتي رجل ويقول: يا رب! ارزقني الجنة وهو لا يعمل بطاعة الله! فأقول له: يا أخي! السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، صحيح أن الدعاء مخ العبادة، ومطلوب منك أن تدعو وأن تتضرع، لكن كيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت تفضل القهوة على المسارعة إلى الصلوات حين الأذان؟! وكيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت لا تصلي؟! هذا مستحيل، ولا تجد ذلك في آية من القرآن ولا في حديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة هو الإيمان الذي هو القول والتصديق والعمل، القول بأن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وتصدق بقلبك وتعمل، تصلي بالليل وتبكي وتبقى خائفاً وتقرأ قرآناً وتسبح ربنا، وتبتعد عن الحرام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر من عدم التورع عن الحرام، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم -: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!) يعني: كيف يستجاب له؟! فكل هذه علامات ضوئية توصلك إلى جنة رب البرية، لكن الإنسان إذا كان يتمنى الجنة على الله عز وجل من غير عمل ومن غير عقيدة صحيحة فهذا وهم، ومن الأماني الكاذبة.

وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: إنا نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لأنهم لو أحسنوا الظن في الله لأحسنوا العمل، وهذا الكلام ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من ينسبه إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى.

فيجب علينا جميعاً -أيها الأحبة الكرام- أن نعلم يقيناً أن الجنة تحتاج إلى رجال، وتحتاج إلى أبطال، وتحتاج إلى أطهار، وتحتاج إلى أبرار، وتحتاج إلى أُسُود، وفي نفس الوقت زهاد عباد.

وقد كان الواحد من السلف يظل في بيته في الليل يصلي قيام الليل، ولكن الآن الأمة بأسرها تركت ذلك إلا عدداً قليلاً جداً ممن يقوم الليل، وممن يصلي لله جل وعلا، ويقف بين يديه، ويتضرع ويتذلل له سبحانه، بل بعضهم حتى الفجر يضيعه، ثم تراه يقول: يا رب! ارزقني الجنة! وكذلك صلاة العصر يضيعها ويطلب الجنة! ولا يتورع على الإطلاق من أجل أن يبني ويعمر أن يأكل الحرام، ثم يقول: يا رب! ارزقني الجنة! فيا إخواننا! الجنة سلعة غالية جداً، ومستحيل أن تشتري هذه السلعة إلا بأغلى مهر، والصحابة رضوان الله عليهم بشروا في الدنيا بالجنة، ليس بالأماني ولا بالكلام، وإنما بالعمل وبالرجولة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في أحد المعارك: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ويسمعه صحابي جليل وهو يأكل تمراً ويقول: جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما الذي حَملك على قول بخ بخ يا عمير؟ فقال عمير: لا، والله! يا رسول الله! إلا أني أرجو أن أكون من أهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت من أهلها).

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لـ عمير هذه العبارة من فراغ، وإنما بعد أن عرف صدق عمير حين قال: (جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ) فلذلك قال له: (أنت من أهلها)؛ ولذلك رمى بالتمرات عندما تذكر جلال وجمال هذه الجنة، فقال: (والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة) فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.

فالصحابة -يا إخوة! - لم ينالوا هذه الدرجة إلا بالكفاح، وبالجهاد، وبالمشقة، وبامتثال الأمر واجتناب النهي، وبالوقوف عند الحدود، وبالسمع والطاعة لله سبحانه وتعالى وللنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب علينا أن نسلك هذا الدرب وهذا الطريق.

ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليكم بجنته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.

أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.