للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الدنيا]

النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن لا والله، في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله، وأهله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد) يرجع الأهل، ويقسم المال على الورثة، ولا يبقى لك إلا عملك، وينادى عليك بلسان الحال: رجعوا وتركوك يا مسكين، يا من شغلك مالك عن حقوق الله جل وعلا، يا من شغلتك تجارتك عن السجود بين يدي الله جل وعلا، يا من سمعت المؤذن يقول لك: (حي على الصلاة) وأنت في بيتك، وفي تجارتك، وفي حقلك، وفي وزارتك، وفي مكتبك ما تحرك فيك ساكن، وما قمت لله جل وعلا لتضع الأنف والجبين في التراب ذلاً لخالقك.

يقال لك بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت، انتهى كل شيء.

فكم من ليلة يفرح الناس بها، يسهرون ويمرحون ويضحكون، وفي الصباح الباكر يبكون، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم:٤٢ - ٤٤].

يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩]، نام هارون الرشيد على فراش الموت فقال لإخوانه من حوله: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه.

فحملوا هارون إلى قبره، ونظر هارون إلى القبر وبكى، ثم التفت إلى الناس من حوله وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٨ - ٢٩]، ثم رفع رأسه إلى السماء وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه.

ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل: كم عمرك؟ قال الرجل: ستون سنة.

قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل! فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال الفضيل: يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع.

فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً.

فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة.

قال: ما هي -يرحمك الله-؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.

سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحٌ على الفراش وأيديهم تقلبني كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا وهن وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الما ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وودعوني جميع الأهل وانصرفوا وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجزين بعد الموت بالحسن وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك أنت الرحمن ذو المنن هذه حياتك يا ابن آدم، هذه قصتك، من أنت؟ يا ابن التراب وما دون التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب علام الكبر؟ وعلام الغرور؟ أنسيت أصلك؟ أنسيت ضعفك؟ أنسيت فقرك؟ أنسيت عجزك؟ أنسيت أنك من التراب خلقت وإلى التراب تصير؟ فلماذا تحارب دين الله؟ ولم تحارب سنة الحبيب رسول الله؟ ولم تصد عن سبيل الله؟ تذكر أن الكرسي لو دام لغيرك ما وصل إليك، إن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال فلابد من دخول القبر.

وانتبه واعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.

قال لقمان لولده: أي بني! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها.

كم ستعيش أيها المسئول؟ يا من حملك الله أمانة الحكم، وأمانة الإعلام، وأمانة الوزارة، وأمانة التربية، وأمانة التوحيد، وأمانة الأبوة.