للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثمرات الخوف من الله]

قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: من خاف الله دله الخوف على كل خير، وكل قلب ليس فيه خوف الله، فهو قلب خراب.

وقال الحسن البصري حينما قيل له: يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا من الله جل وعلا، حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن رحمه الله: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة.

نعم إخوتي الكرام! ففي الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي في شعبه، وابن حبان في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين)، تدبر هذا الكلام أيها الحبيب! يقول ربك عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة).

والخوف الحقيقي هو الذي يحول بين العبد وبين معصية الله، ويدفع العبد دفعاً إلى طاعة سيده ومولاه، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم ينطلق ليرتكب المعاصي والذنوب، ولكن الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقبه الله عليه، لذا فقد جعل الله الخوف منه سبحانه ثمرة حتمية لازمة للإيمان به جل وعلا، فقال عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥]، فالخوف من الله ثمرة حتمية للإيمان، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يتأثر بالموعظة إلا من يخشاه، قال سبحانه: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:١٠]، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يعتبر بمصارع الظالمين، ولن يتأثر بأخذ الله للمجرمين إلا من خاف عذاب الآخرة، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٢ - ١٠٨] أي: غير منقطع ولا منته.

إن أهل الخوف من الله جل وعلا هم أهل الجنان، وهم أهل القرب من الرحيم الرحمن، لذا فإن الله تعالى قد جمع لأهل الخوف والخشية أعلى مقامات أهل الجنان من الرحمة والعلم والهدى والمغفرة والرضوان، قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:١٥٤]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:١٢]، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣١ - ٣٥].

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه ممن كان قبلكم -أي: يسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب- فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: يا أولادي! إذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني -وفي لفظ في الصحيح: فاذروا نصفي في البر ونصفي في البحر- ثم قال: فلأن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال لهذا العبد: (كن) فكان، فإذا هو رجل قائم بين يديه، فقال الله له: ما حملك على أن صنعت ما صنعت؟ فقال العبد: مخافتك يا رب! أو خشيتك يا رب! فغفر الله له بذلك).

إنه الخوف، وإنها ثمرة الخشية من الله، وهذه هي مكانة الخائفين عند الله جل وعلا.