للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طهارة القلب من النفاق]

أول هذه الثمار: أن المداومة على العمل الصالح سبب لطهارة القلب من النفاق، وصلة القلب بربه الخلاق، وهل تريد شيئاً أعظم من هذا؟! إن القلب هو الأصل الذي ينبغي أن تبذل من أجله الأوقات والمجهودات، بل والأموال والدعوات، فإن القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت جنوده)، فصلاح القلب صلاح للبدن كله، وفساد القلب فساد للبدن كله، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث مخرج في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

فالقلب هو الأصل، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الأعمال تتفاضل عند الله جل وعلا بتفاضل ما في القلوب لا بكثرتها وصورها.

ومعنى ذلك: أن الإنسان قد يفعل فعلاً عظيماً وعملاً كبيراً في أعين الناس، وهو عند الله حقير لا وزن له؛ لأنه ما انطلق في هذا العمل إلا من أجل السمعة، والشهرة، والرياء والنفاق، والله أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله غير الله، ترك الله ذلك العمل لصاحبه ولشريكه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠].

وقد يعمل الإنسان عملاً هو في أعين الناس حقير، ولكنه عند الله عظيم؛ لأنه ابتغى بهذا العمل وجه الله الكريم، تصدقت عائشة يوماً بتمرة فتعجب بعض الناس وقالوا: يا أم المؤمنين! تتصدقين بتمرة؟ قالت: نعم.

ألم تقرأ قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:٧]؟ قال: بلى.

قالت: وإن في هذه التمرة ذرات خير كثيرة! إنه الإخلاص! فالأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب لا بكثرة الأعمال ولا بصورها؛ لذا قال سيد الرجال صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فقدم الحبيب القلوب على الأعمال؛ لأن العمل لا يقبل إلا إذا كان صاحب هذا العمل يبتغي بعمله هذا وجه الله جل وعلا.

والأعمال تتفاضل بتفاضل القلوب لا بكثرة الأعمال وصورها، فإذا استنار القلب بنور التوحيد والإيمان أقبلت إليه وفود الخيرات من كل ناحية؛ فتنقل صاحب هذا القلب من طاعة إلى طاعة، وإذا أظلم القلب -أعاذنا الله وإياكم من ظلام القلب وسواده- أقبلت عليه سحائب البلاء والشرور والهلاك، فانتقل صاحب هذا القلب المظلم من معصية إلى معصية، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط في غياهب الظلام.

أيها الأحبة الكرام! القلب هو الأصل ولذا فإن من أعظم علامات صحة القلب وطهارته من النفاق: المداومة على العمل الصالح.

أيها الأحبة الكرام! لذلك خاف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم من النفاق، أو أن يكون القلب قد تسرب إليه شيء من النفاق وصاحب هذا القلب لا يدري، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] فقالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه) لذا كان الصحابة يخشون على أنفسهم من النفاق، حتى لا يظن ظان أنه أعلى من مستوى الوقوع في هذا الداء العضال.

يقول ابن أبي مليكة والأثر رواه البخاري تعليقاً: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل.

بل لقد ذهب فاروق الأمة عمر -الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه- إلى حذيفة بن اليمان الذي أطلعه النبي على أسماء المنافقين، ذهب إليه عمر يقول له: أسألك بالله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟! هذا عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه يخشى النفاق على نفسه! ويقول الحسن البصري: ما أمن النفاق إلا منافق، وما خاف النفاق إلا مؤمن، فبالجملة أقول: إن من أعظم علامات طهارة القلب وصحته أن يداوم صاحب هذا القلب على العمل الصالح، فإن من عبد الله في موسم طاعة، وتخلى بعد ذلك عن الطاعة، فإن هذا من أعظم العلامات على نفاق القلب.

أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول العمل.