للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضخيم العقل والتهوين من النص]

المرحلة الأولى من مراحل هذه الحرب هي: التضخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته، وأنا لا أريد أن أقلل من شأن العقل أبداً، بل إنني أعلنها: إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً بل يباركه ويزكيه ويقويه، لكن انظر إلى التضخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته، مع التهوين والتحقير والتقليل من شأن النص ومكانته مهما كانت درجة ثبوت النص من الناحية العلمية.

لقد طالبوا صراحة وقالوا: لابد من إعادة النظر في القاعدة الأصولية التي أجمعت عليها الأمة، والتي تقول: (لا اجتهاد مع النص) قالوا: لابد من إعادة النظر في هذه القاعدة، لماذا؟ قالوا: لأنها تشكل حجراً على العقل البشري الذي وصل إلى ما وصل إليه الآن، في عصر الذرة وأتبيس الفضاء دسكفري، واخترع القنبلة النووية، وصنع القنبلة الجرثومية، وغاص في أعماق البحار وانطلق في أجواء الفضاء؛ هذه القاعدة تشكل حجراً على هذا العقل البشري المبدع! إذاً: لا ينبغي أن نذعن لها، وإنما يجوز للعقل أن يجتهد حتى ولو كان النص في القرآن والسنة.

ومحال أن يصل العقل إلى حقائق الإيمان، وأركان وأصول وثوابت الإسلام بدون الوحي أبداً؛ إذ كيف يتعرف العقل على ذات الله؟! كيف يتعرف العقل على أسماء الجلال وصفات الكمال؟! كيف يتعرف العقل على الكتب السابقة وعلى الرسل السابقين؟! كيف يتعرف العقل على أمور الغيب كلها، من أول الموت إلى الجنة أو النار؟! كيف يتعرف العقل على كيفية الصلاة وكيفية الزكاة، وكيفية العمرة، وكيفية الحج، دون أن يرجع إلى الوحي المعصوم، إلى النص القرآني، والنص النبوي على صاحبه الصلاة والسلام؟! هذا مستحيل، ولله در ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للـ عين البصيرة فاتخذه دليلاً فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلاً طرق الهدى مسدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلاً فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فأعلم بأنك ما أردت وصولاً يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً أرجح عقل عرفته الأرض هو عقل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلقد أخبرنا القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدري شيئاً عن الكتاب ولا عن الإيمان إلا بعد أن أوحى إليه الرحيم الرحمن، قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢]، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو صاحب أرجح وأطهر وأشرف عقل عرفته الأرض، لا يدري عن الكتاب ولا عن حقائق الإيمان شيئاً، حتى أوحى الله إليه؛ فهل يجرؤ عاقل بعد ذلك أن يزعم أنه يستطيع أن يتعرف على حقائق الإيمان وحقائق الكتاب بعقله فقط دون النقل؟! {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:٨٩ - ٩٠].

فهذه المرحلة: مرحلة التضخيم للعقل مع التشكيك والتهوين للنص، تجاوزوها وانتقلوا إلى المرحلة الثانية من مراحل هذه الحرب المخططة.