للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرياء محبط للأعمال]

العنصر الثاني: أن الرياء يحبط العمل، فإذا ابتغى العبد بعمله وجه الناس والثناء منهم، والجاه في قلوبهم، والمحمدة على ألسنتهم، ولم يبتغ بعمله وجه الله جل وعلا فعمله حابط ومردود في وجهه؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠]، ولقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:٥]، ولقول الله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:٤ - ٧].

فالرياء يحبط العمل -أيها الأحباب- والأعمال يتوقف صلاحها وفسادها وقبولها وردها على نية فاعلها وصاحبها، فإن كانت نية العبد صالحة لله، قبل عمله، ولو كان في أعين الناس حقيراً فهو عند الله عظيم، وكم من الأعمال ينظر الناس إليها على أنها عظيمة، وعلى أنها جليلة، وعلى أنها كبيرة وهي عند الله حقيرة، لا تزن عنده جناح بعوضة؛ لأن صاحبها ما ابتغى بها وجه الله، وإنما ابتغى بها الثناء والمحمدة عند الناس، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فالأعمال يتوقف قبولها على صلاح النية، فإن ابتغيت بعملك الله جل وعلا قبل عملك، ولو كان في أعين الناس حقيراً، ولو ابتغيت غير الله جل وعلا رد عملك في وجهك، ولو كان في أعين الناس عظيماً.

ولذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يغزو -أي: يجاهد- يلتمس الذكر، والرجل يقاتل يلتمس المغنم -أي: الغنيمة-، والرجل يقاتل يلتمس الأجر فما لهم؟ -أو أيهم في سبيل الله؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

وفي رواية النسائي وابن ماجة -والحديث حسنه الحافظ العراقي - أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر -يريد الأجر من الله جل وعلا وفي نفس الوقت يريد أن يذكر بين الناس- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، لا شيء له، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وما ابتغي به وجهه جل جلاله).

وفي الحديث الذي يخلع القلب ويعكر صفو الحياة، والذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد -مات في ميدان الشرف والرجولة والبطولة- فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

لا إله إلا الله! رجل بذل نفسه في ميدان القتال، ولكنه ما ابتغى بعمله وجه الكبير المُتَعَالِ، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إن كنت تستطيع أن تخدع الناس، فلن تستطيع أن تخادع الله جل وعلا، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:٩ - ١٠].

قال: (رجل استشهد فَأُتِيَ به فعرفه نعمه، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن) عالم ملأ الدنيا علماً وملأ الدنيا فتاوى، عالم أشير إليه بالبنان والتف الناس حوله، إلا أنه ما فعل ذلك إلا ليحصل كرسيّاً زائلاً، وليحصل منصباً فانياً، أو ليكون قريباً من السلطان، فما ابتغى بعلمه وجه الرحيم الرحمن، والله يعلم منه السر وأخفى.

وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تك تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).

قال: (ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فَأُتِيَ به فَعَرَّفُه نعمه فَعَرَفَهَا، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل -هذا ما قد نلته في الدنيا- ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

عالم وقارئ للقرآن لم يبتغ بعمله وجه الرحيم الرحمن، يسحب على وجهه ليلقى في النيران، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، برحمته وهو أرحم الراحمين.

أما الرجل الثالث أيها الأحباب! (رجل أعطاه الله من أصناف المال فَأُتِيَ به فَعَرَّفَه نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً من أوجه الخير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال: هو جواد -ليقال: المحسن الكبير- فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

أسمعت -أيها الحبيب- إلى خطورة الرياء؟! رجل مات في ميدان القتال، يسحب على وجهه في النار! ورجل ملأ الدنيا علماً، يسحب على وجهه في النار! ورجل قرأ القرآن بالليل والنهار، يسحب على وجهه في النار! ورجل أنفق في كل أبواب الخير، يسحب على وجهه في النار! لماذا؟ لأنهم لم يبتغوا بأعمالهم وجه العزيز الغفار، وإنما ابتغى كل واحد منهم مأرباً شخصياً وغاية شخصية، فلما حصل عليها في الدنيا حرم الجزاء من الله جل وعلا في الآخرة، فالرياء -أيها الأحباب- محبط للعمل؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وإلا ما ابتغي به وجهه جل جلاله.