للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام العمل مع الرياء]

اعلموا أيها الأحبة! أنه تارة يكون العمل رياءً محضاً، كأن يكون الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإسلام، ويبطن الكفر- فهذا أشد أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، إذا أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار؛ لقول الله جل وعلا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١]، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥]، ولقول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٤ - ٢٠٥].

فأشد أبواب الرياء أن يكون العمل رياءً محضاً في أصل الدين، فإذا راءى في أصل الدين فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كان الرياء بعبادة من العبادات أو بطاعة من الطاعات مع وجود أصل الدين، كأن يكون الرجل مؤمناً موحداً لله جل وعلا، ولا يسجد إلا لله، ولا يوجه العبادة إلا لله، إلا أنه زل في عبادة من عباداته وطاعة من طاعاته فراءى بها الناس والمخلوقين فبالإجماع أن هذه العبادة وهذه الطاعة وهذا العمل حابط ومردود في وجهه، ولا قبول له عند الله جل وعلا؛ لما أسلفته من المقدمات ومن الأدلة.

وقد يكون الرياء مشاركاً للعمل، فإن شارك الرياء العمل من بدايته -أي: من الأصل، ومنذ انعقاد النية- فأيضاً الأدلة الصحيحة الصريحة تقول بإحباط هذا العمل وبعدم قبوله عند الله جل وعلا، بمعنى: لو أن رجلاً خرج ليصلي، وما خرج أصلاً للصلاة إلا مراءاة للمخلوقين، وليرائي بها الناس، فالرياء شريك مع نية العمل، فهذا العمل كله من أوله إلى آخره عمل حابط ومردود في وجه صاحبه، وأكتفي بدليل واحد على ذلك، وهو الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

وفي رواية ابن ماجة: (فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك).

وقد يكون العمل لله جل وعلا في أوله، فيأتي الرجل للصلاة يبتغي بها وجه الله، ولكنه وهو في أثناء الصلاة طرأ عليه طارئ الرياء، فاختلف العلماء في هذه الحالة هل يحبط العمل كله أم لا؟ ولكن الراجح -كما رجحه الإمام أحمد والإمام الطبري -: أنه إذا كان أصل النية لله جل وعلا، وإذا كان أصل العمل لله جل وعلا وطرأ عليه طارئ الرياء، فإن دفعه فلا يضره هذا الطارئ بلا خلاف، أما إن استرسل مع الرياء في العمل، فإن عمله لا يحبط ولا يرده الله، وإنما يجازى على أصل نيته الأولى، وهذا من رحمة الله جل وعلا.

أما حين يكون العمل خالصاً لله جل وعلا وحده، لا تشوبه شائبة من شوائب الرياء ولا من شوائب النفاق، ويلقي الله للعبد الحب في قلوب الخلق وفي قلوب الناس، ويجري ألسنتهم بالثناء عليه، فيفرح العبد بذلك ويستبشر به، فهذا لا يضره بإجماع، وليس هذا من أبواب الرياء، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من أعمال الخير فيحمده الناس عليه، أي: يعمل أعمال الخير مبتغياً وجه الله جل وعلا ومخلصاً لله في عمله؛ فيحمده الناس على هذا العمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك عاجل بشرى المؤمن)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:٩٦]، قال ابن عباس: أي محبة في قلوب الخلق، ويؤكد ذلك أيضاً حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).

وفي الحديث الذي رواه البزار وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان صيته حسناً وضع في الأرض، وإن كان صيته في السماء سيئاً وضع في الأرض)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:٩٦]، وأود أن أنبه إلى أمر وهو أن حسن الثياب وحسن النعل وحسن المظهر ليس من الرياء، والدليل على ذلك ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس).

أي: ليس هذا من الكبر وإنما الكبر بطر الحق وغمط الناس.

هذه هي أقسام العمل مع الرياء بإيجاز شديد، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يقينا شر الرياء والنفاق، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.