للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[يوم العرض على الله]

فيا أيها الحبيب! يا أيها الكريم! هل ذكرت نفسك بهذه الحقيقة؟ هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليومٍ سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ من منا كتب وصيته ووضعها تحت رأسه في كل ليلة؟ يا من شغلك طول الأمل! أنسيت يوماً سترحل فيه عن دنياك لتقف بين يدي مولاك.

وليس الموت هو نهاية المطاف، ولكنني -كما ذكرت- سنبعث لنسأل بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبرى التي قال الله عز وجل عنها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٧ - ٨] فينادى عليك باسمك واسم أبيك أين فلان بن فلان؟ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:٢٠] إنه يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه يوم {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢] إنه يوم الوعيد يوم يؤتى بملكين: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:٢١]، قال الحافظ ابن كثير قال عثمان في خطبته: سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه، ستساق إلى الله جل وعلا، وسينادى عليك يا مسكين ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان.

تفكر الليلة لو عدت إلى بلدك ووجدت شرطياً يقدم لك رسالة ويقول: إنك مطلوب غداً للوقوف أمام قاضٍ من قضاة الدنيا، الفقراء الضعفاء الأذلاء لن تذوق عينك النوم الليلة، ستفكر! فهل فكرت في موقف ستسأل فيه من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟

مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً

أين الإمارة والسلطان؟ أين الجاه؟ أين الكراسي؟ أين الجند؟

مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا

والنار تلهب من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا

اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان

لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا

نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا

المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا

وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه -عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦].

اتقوا النار فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:١٩ - ٢١].

اللهم حرم جلودنا عن النار، ووجوهنا على النار، وأبصارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، برحمة منك يا عزيز يا غفار! (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ستسأل بين يدي الله أنت بشحمك ولحمك، سيكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، انظر أيها المؤمن واسجد لربك شكراً أنك من أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

ومما زادني فخرً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

اسجد لربك شكراً يا من وحدت الله، اسمع ماذا قال إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة -سوف يقربك الله جل جلاله منه- حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة لا تأويلاً للصفة هو الستر والرحمة، ونحن لسنا ممن يؤول صفات الحق جل وعلا، وإنما نؤمن بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها ولا لمعانيها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا جلَّ عن الشبيه والنظير والمثيل، لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له، ولا والد له ولا ولد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] (يُدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه يقول له ربه جل وعلا: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فيقول المؤمن: رب أعرف رب أعرف -لا ينكر يقولها مرتين- فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).

أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينادى عليهم بهذا النداء العذب الحلو: (ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) من الذي يقال له هذا؟ الموحد المؤمن، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان، وأن يختم لي ولكم عند الموت بالتوحيد، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين! ينادى عليك لتسأل بين يدي الله تعالى أين فلان بن فلان؟ مَن أنا؟! هذا هو اسمي! أقبل، أقبل للعرض على الله جل وعلا، فتجد نفسك واقفاً بين يدي الحق فتعطى صحيفتك هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مصيبة ومعصية أسررتها، فكم من معصية قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها ذكرك الله إياها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، إن كنت من المؤمنين أعطاك الله كتابك باليمين وأنارت أعضاؤك وأشرق وجهك وانطلق النور من بين يديك وعن يمينك كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨].

أما أهل النفاق أهل الظلمات فينادون أهل الأنوار: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].

{يُنَادُونَهُمْ} [الحديد:١٤] يا أهل الأنوار! يا أهل التوحيد! {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:١٤]؟ ألم نحضر معكم الجُمَع والجماعات {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤] ينطلق وكتابه بيمينه بعدما سعد سعادة لن يشقى من بعدها أبداً، ينطلق في أرض المحشر إلى إخوانه وأحبابه وأقرانه ومن هم على شاكلته والنور يشرق من وجهه وأعضائه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه، يتقد مرة وينطفئ مرة] والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وتعقبه الإمام الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط البخاري ينطلق والنور يشرق من وجهه وأعضائه وكتابه بيمينه، والله لقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، فينطلق إلى إخوانه وأحبابه من الموحدين في أرض المحشر، ويقول لهم: شاركوني السعادة، شاركوني الفرحة، شاركوني البهجة، اقرءوا معي كتابي، انظروا هذا كتابي بيميني، اقرءوا هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذا صيامي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا عملي، اقرءوا معي {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:١٩ - ٣٣].