للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السؤال الأول: من ربك]

السؤال الأول: سوف يقولان لك: من ربك؟ انتبه! فإن الذي يوفق للجواب هو المؤمن الصادق، أما المنافق والدجال ونحوهم فإنهم لا يوفقون إلى الإجابة، وأما نفاقهم ودجلهم فإنه ينتهي بخروجهم من الدنيا، ولا مجال لفعله في القبر، وبعض الناس إذا نصح قال: أنا قلبي مثل اللبن (أبيض)، وهو لا يصلي! فهذا قلبه أسود من ظلام المعصية؛ لأنه لو كان في قلبه ذرة من إيمان، لركع وسجد للواحد الديان.

وربما رأيت مسلماً فتح الله عليه من الرزق وهو لا يصلي، وما شاء الله! صحة طيبة! ومع ذلك لا يصلي، وبعد ذلك تقول له: يا أيها الرجل! لماذا لا تصلي؟! فيقول لك: ربك رب رءوف! وتراه لا يزكي، فتسأله: لماذا لا تزكي؟! فيقول لك: والله أنا عندي عيال يأكلون الحجارة! وتراه ذا مال ومع ذلك فإنه لا يحج! فسبحان الله العظيم! المسلم هو الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله باللسان، ويصدق ذلك بالجنان وتنطلق بذلك الجوارح والأركان؛ لأن الإيمان عند أهل السنة: قول باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.

وكثير من الناس في هذا الزمان يقول: والله! أنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل هناك مسلم لا يحب النبي؟! لكن المحبة لها دلائل وبراهين، فقد يزعم بعضهم ويقول: أنا محب للنبي وهو لا يصلي! (محب للنبي) وهو مبتدع! (محب للنبي) وهو لا يزكي! (محب للنبي) ووهو بعيد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! بالله عليكم: هل هذا محب أم كذاب؟! إذاً: الكذب سهل جداً، يقول لك: أنا أحب النبي.

لكن أين سلوكك؟! وأين محبتك العملية لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! من أجل هذا أذكر إخواننا هنا بأنه كان هناك تلميذ صغير يتعلم عند أستاذ، وسمع التلميذ الصغير أن أستاذه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، فجاء التلميذ، وقال له: يا أستاذ! أنا أريد أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: يا بني! النبي صلى الله عليه وسلم لا أحد يراه إلا إذا كان محباً له وصادقاً معه ومنفذاً لسنته، فلا يزور النبي إلا أحبابه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن من الناس من يذهبون لزيارة النبي، ومن الناس من يأتي النبي لزيارته! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي).

إذاً: السؤال الأول في القبر: سوف يقال لك: من ربك؟ والذي سوف يجيب هنا هو المؤمن الصادق، الذي قالها بحق وصدق في الدنيا: ربي الله، لم يسأل إلا الله، ولم يستعذ إلا بالله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يلجأ إلا إلى الله، ولم يفوض الأمر إلا إلى الله، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله! المؤمن الذي كانت حياته كلها لله عز وجل: صلى لله، وترك لله، وأعطى لله، ومنع لله، وأبغض لله، وراقب الله جل وعلا في سره وعلنه، هذا الذي يستطيع أن يجيب إذا ما سئل عن ربه، فيقول: ربي الله الذي آمنت به في الدنيا، ربي الله الذي راقبته في الدنيا، ربي الله الذي امتثلت لأوامره وشرعه وحدوده.

أما الرجل الكاذب الذي لم يصل، ولم يصم، ولم يزك، ولم يحج! وإنما هو مسلم بالبطاقة الشخصية! فإذا أدخل القبر فوالله لن ينطق بالصواب؛ لأن الله عز وجل قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧]، يثبت الله الذين آمنوا.

إذاً: المؤمن هو الذي يستطيع أن يجيب عن السؤال، والأمر ليس سهلاً مثلما تتخيلون؛ لأن الذي سوف ينطق هو إيمانك، والذي سوف ينطق هو عملك، والذي سوف ينطق هي صلاتك، والذي سوف ينطق هو قيام ليلك وقرآنك وبرك بوالديك، وإنفاقك على الفقراء واليتامى، وإحسانك للجيران، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -والثلاث عمل عمله في الدنيا- صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع الناس به) فينتفع بذلك في قبره.

إذاً: الذي يجيب عن السؤال هو الذي آمن بالله حقاً في الدنيا، ولذلك فإن سيدنا حارثة -وهو صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- قال عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حارثة! كيف أصبحت -يعني: كيف حالك وماذا أنت عامل هذا اليوم؟ - قال له: أصبحت مؤمناً حقاً، والحمد لله، يا رسول الله! قال له: انتظر يا حارثة! إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولك، وما حقيقة إيمانك؟ فقال حارثة: حقيقة إيماني يا رسول الله! أني قد عزفت نفسي عن الدنيا) فاعلم أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر؛ ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، وأن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم!! (عزفت نفسي عن الدنيا) علم أن الدنيا قنطرة، أو شجرة استظل بظلها ثم تركها ورحل، علم أن الدنيا جيفة شاة ميتة، كما في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ماتت وأصبحت جيفة، فقال لأصحابه: (أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ قالوا: نعم، يا رسول الله! ومن هوانها ألقوها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: والله للدنيا أهون عند الله من هذه الشاة على أهلها، ولو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

الدنيا حقيرة جداً، ونحن نتكالب ونتهافت عليها، والولد يقتل أباه من أجل الدنيا، والبنت تسب أمها من أجل الدنيا.

وكل هذا من أجل الأموال والكراسي والمناصب.

المحاكم ممتلئة بالبلايا، لماذا؟! بسبب الطمع والجشع، وكلهم ناسٍ أنه سيترك الدنيا حافياً عارياً، وصدق من قال: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً ولو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن هل أخذ معه فداناً من الأرض؟! هل أخذ معه بقرة؟! هل أخذ معه مالاً؟! لا، أبداً.

قال الشاعر: دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع ولا تجمع من المال فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع إي والله! وأحكي لكم قصة ظريفة: هذا سيدنا عيسى عليه السلام مشى مع صاحب له، وبعد ذلك وقف عيسى عليه السلام يصلي، ودخل صاحبه القرية؛ ليأتي بطعام فأتى بثلاثة أرغفة، فلما وقف عيسى عليه السلام يصلي جاع الرجل فأكل رغيفاً، ولما أنهى عيسى الصلاة قال له: أين الرغيف الثالث؟ قال: والله ما كانا إلا رغيفين، يكذب على نبي! قال له: يا رجل! قال: إنما هما اثنان.

قال له: خيراً! ومر عيسى على ظباء ترعى -يعني: غزلان- فنادى نبي الله عيسى على ظبي من هذه الظباء وذبحه وشواه؛ لكي يأكلوا فوضع الظبي مشوياً، وقبل أن يمد الرجل يده سأل عيسى ربه أن يحيي له هذا الظبي فأحياه الله؛ لأن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:٤٩].

وساعة رؤية الرجل للظبي الذي كان سيأكله مشوياً، فرآه حياً أمامه! سبحان الله! قال له عيسى: بحق الذي أراك هذه المعجزة من صاحب الرغيف؟ قال له: والله ما كانا إلا رغيفين! قال له: خيراً.

فأخذه بيده ومشوا، فمر نبي الله عيسى على نهر، فأخذه عيسى من يده يجره؛ ليعبر به على سطح الماء، فتأخر الرجل، فقال له: هيا، فعبر به نبي الله عيسى على سطح الماء حتى الشاطئ الآخر.

فقال الرجل: سبحان الله! يمشي على الماء! فقال له: بحق الذي أراك هذه المعجزة من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال له: والله ما كانا إلا رغيفين! قال له: خيراً، فمر به نبي الله عيسى على أرض صحراء فيها رمال، فجمع عيسى ثلاثة أكوام من الرمل متساوية، وسأل عيسى ربه أن يصير له هذه الأكوام الترابية إلى ذهب! وأنتم تعرفون أن الذهب يذهب العقول.

قال الشاعر: رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضه فعنه الناس منفضة فحول الله تعالى الأكوام الترابية إلى ذهب، فقال له سيدنا عيسى: الكوم الأول من الذهب لي أنا، والكوم الثاني لك، والكوم الثالث لمن أكل الرغيف، فقال الرجل: أنا الذي أكلت الرغيف، فقال له نبي الله عيسى: كلها لك، ولكن هذا فراق بيني وبينك.

وانظر كيف كانت النهاية! قعد الرجل بجانب الثلاثة الأكوام وهو يقول: سوف أبني وأشتري عشرة فدادين، وسوف أعمل مزرعة ماشية! فمر عليه ثلاثة من قطاع الطرق، فلما رأوا الثلاثة الأكوام من الذهب ذهبت عقولهم فقتلوه.

ثم قال أحدهم: فليذهب أحدنا بسرعة ويحضر لنا طعاماً كي نأكل، ثم نهرب، فذهب رجل منهم ليحضر لهم طعاماً، -إنها فتنة المال!! إن الولد يقتل أباه من أجل المال، لكن: هل سيبقي هذا على صاحبيه؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! - فقال لنفسه: لماذا لا تصنع سماً في الطعام، فتقضي على صاحبيك، وتأخذ الثلاثة الأكوام لوحدك، دون أن يعلم أحد بالخبر؟! وفي نفس اللحظة صاحباه الآخران يقولان: بدلاً من أن نقسم الأكوام، لم لا نقتله ونقسم الثلاثة على اثنين؟! فجاء صاحبهما بالطعام المسموم، وأثناء وصوله انقضا عليه فقتلاه، وجلسا يأكلان الطعام فماتا!! فعاد عيسى عليه السلام إلى المكان، فوجد أكوام الذهب في مكانها، ووجد صاحبه وإلى جواره ثلاثة من الرجال؛ فبكى نبي الله عيسى وقال: هكذا تفعل الدنيا بأهلها! الذي سيجيب عن السؤال هو من كان مؤمناً في الدنيا، وتذكر قول سيدنا حارثة، عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حقيقة إيمانك يا حارثة؟ قال له: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأ