للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

طواغيت عُبدوا من دون الله

الحمد لله الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:٦٢].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله، اللهم صلِّ وسلم، وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء وسيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل يا سيدي! وقومت المعوج! وأمنت الخائف! وطمأنت القلق! ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه.

أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء السادس والثلاثين على التوالي ومازلنا بفضل الله وحوله وطوله ومدده نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، وانتهينا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:٨١ - ٨٢] وقلنا في اللقاء الماضي: بأنها صورة من صور الشرك المتكررة وآلهة من آلهة العصر المتغيرة؛ لأن الطاغوت: هو كل شيء عبد في الأرض من دون الله جل وعلا، وللطاغوت في كل عصر لغة وصورة وأسلوب ولسان، إنها صورة من صور الشرك المتعددة والمتغيرة التي تتطور وتتغير بتغير الزمان والمكان، فقلنا: بأنه ربما تكون صورة الطاغوت والإله التي تعبد في الأرض من دون الله جل وعلا متمثلة في فرد من الأفراد، تصاغ له الأمجاد، وتهتف له الدنيا، وتصفق له الجماهير المخدوعة، كأديب من أدباء أولاد الحارات والبارات، أو كواحد من مدمني المخدرات من الممثلين والممثلات، أو المطربين والمطربات، أو الراقصين والراقصات، الأحياء منهم والأموات.

ربما تكون صورة الطاغوت الذي عبده الناس في الأرض من دون الله جل وعلا متمثلةً في صورة من هذه الصور، ولا تظنوا أن العبادة تقتصر على الركوع والسجود كما يفهمها كثير من الناس، ولكن العبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي كمال الحب مع كمال الذل.

وإن هؤلاء الذين ضربت لهم المثل يقدم لهم كثير من الناس من الولاء والحب والذل وفروض الطاعة ما لم يقدموا نصفه لله جل وعلا.

وربما تتمثل صورة الطاغوت الذي عبده الناس في الأرض من دون الله جل وعلا في المال، الذي عبده كثير من الناس وظنوه إلهاً قادراً يقول للشيء: كن؛ فيكون، فقدم كثير من الناس للمال كل ما يملكون من وقت وجهد وقوةٍ حتى وإن كان ذلك على حساب دينهم وقربهم من ربهم جل وعلا.

وربما تكون صورة الطاغوت متمثلةً في قبر من القبور أو ضريح من الأضرحة يذهب الناس ويهرعون إليه، ويقولون بلسان الحال والمقال: (إذا ما تعثرت الأمور فعليكم بأصحاب القبور).

فيذهب الناس إلى هذه القبور ويطلبون من أصحابها ما لا ينبغي أن يطلب إلا من العزيز الغفور.

وهكذا تتعدد صور الشرك والطواغيت التي عبدت في عصرنا من دون الله جل وعلا، بتعدد الأزمان، وتطور الأشكال، واختلاف عقول الناس وفكرهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:٨١ - ٨٢].