للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ركاب سفينة واحدة]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.

وصل اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.

أحبتي في الله! أثر الذنوب على الأمة، هذا هو موضوع محاضرتنا هذه، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: ركّاب سفينة واحدة.

ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي.

ثالثاً: ما المخرج؟ وأخيراً: متى سنتوب؟ فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يغفر لنا الذنوب، وأن يستر علينا العيوب، وأن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال.

أولاً: ركّاب سفينة واحدة: إن الطالحين والصالحين ركاب سفينة واحدة، فإن هلك الطالحون لطلاحهم فسيهلك معهم الصالحون، وإن غرق المفسدون فسيغرق معهم الصالحون، والله تبارك وتعالى يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥]، فلا يتوهمن متوهم -ولو كان صالحاً- أنه سينجو إن نزلت العقوبة الجماعية، نسأل الله أن يرفع عن الأمة البلاء.

ففي صحيح البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا جميعاً).

فكثير من المسلمين الآن يتصور أنه ما دام قد حقق الصلاح وامتثل الأمر واجتنب النهي فقد نجا، وينظر إلى المنكرات وإلى الذنوب والمعاصي التي خيمت سحبها القاتمة المظلمة الكثيفة على سماء الأمة ثم يهز كتفيه ويمضي، وكأن الأمر لا يعنيه ما دام يأكل ملء فمه، وينام ملء عينه، وظن المسكين أنه قد نجا، بل وربما يستدل على نجاته بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥].

وقديماً خشي صديق الأمة رضي الله عنه هذه السلبية القاتلة، وهذا الفهم المغلوط المقلوب للآية، فارتقى المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) وفي لفظ: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صحيح.

وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ في الصحيح: قام النبي صلى الله عليه وسلم من نومه عندها يوماً فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثر الخبث).

والله الذي لا إله إلا هو لقد كثر الخبث، فلا ينبغي أبداً أيها الأفاضل أن تخيم على سمائنا سلبية قاتلة.

لقد صار كثير من الناس لا يعنيه أمر هذا الدين ما دام آمناً في سربه معافى في بدنه، رزقه الله قوت عمره لا قوت يومه، بل صرنا الآن إلا من رحم ربي ننظر إلى أكفان إخواننا التي تحمل على الأكتاف كل ساعة في أرض فلسطين وكأن الأمر لا يعنينا، حتى المشاعر قتلت في القلوب، وحتى الهم صرنا نبخل به، بل ربما لا يتذكر كثير من الناس الآن الواجب الذي عليه لله جل وعلا إلا إذا ذُكر في محاضرة، أو إلا إذا سمع شريطاً عابراً، فقد يسأل حينئذٍ هذا العالم أو هذا الداعية: ما الذي يجب علي أن أفعله؟ إنه أمر عجب! وكأن المسلم الصادق ما زال ينتظر أن يحدد له عالم ما يجب عليه أن يفعله، صحيح أن هذه ظاهرة صحية لا أقلل من شأنها، بل أحيي كل من يسأل، لكن الذي يدمي القلب -وهذا هو الذي يؤلمني، وهذا هو الشاهد- أن ينتظر المسلم حتى يرزقه الله عز وجل عالماً ليسأله بعد ذلك عما يجب عليه أن يبذله ويقدمه لدين الله، بل من المسلمين الآن من يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضاع الدين! لا حول ولا قوة إلا بالله! دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! بل ومنهم من يقول: دع ما لله لقيصر! وامش إلى جوار الحائط، ورب أولادك، فالفتن كثيرة، والحوائط لها آذان، انتبه لنفسك، لا تنشغل بأمر الدين، ابتعد عن المساجد، ابتعد عن المتطرفين من الملتزمين أصحاب اللحى! لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد إلى آخر هذه الكلمات التي تشل حركة وفكر من يريد أن يخطو على طريق الدين خطوات منضبطة بضوابط الشرع، فالمهزوم نفساً مشلول الفكر والحركة، وربما يُنظِّر لها بالآية الجليلة التي ذكرت، مع أن الفهم للآية مغلوط ومقلوب.

فنحن جميعاً -أيها الأحبة- نركب سفينة واحدة، وعلينا جميعاً أن نعي هذه الحقيقة، ولا أريد أن أطيل مع كل محور من محاور هذا اللقاء المهم.