للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرف الجهاد وفضله]

أيها الأحبة! عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: شرف الجهاد وفضله.

أحبتي! لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه، ونادى عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢] فقام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقعد ولم ينم حتى لقي ربه جل وعلا، ثم خاطبه بعد هذه المرحلة السرية، بأن يجهر بالدعوة، والسرية والجهرية في الدعوة قائمة إلى يومنا هذا بحسب ما تقتضيه مصلحة الدعوة، وانطلق عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الله سراً في الظلام وتحت السراديب لماذا؟ لأن للأصنام جيوشاً من الغضب، ولأن عباد الأصنام ينحر بعضهم بعضاً من أجل ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهتهم التي يذبحون لها آلاف النياق؟! وبعد ثلاث سنوات أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤] فقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجهر بدعوة الله على رءوس المشركين بمكة، فصدع بأمر الله ودعا إلى الله الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والأحمر والأسود، فأرغت قريش وأرعدت وأزبدت، ودقت طبول الحرب وأوعدت، وازداد الإيذاء واشتد البلاء، وأصاب هذا البلاء صاحب الدعوة، وابتلي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ووضع التراب على رأسه! يا شباب الصحوة! وضع التراب على رأس الحبيب محمد! ووضعت النجاسة على رأسه، وتقدم إليه مجرم ليخنق أنفاسه.

وابتلي أصحاب الحبيب وأنتم تعلمون ماذا فُعل بـ بلال وماذا فعل بـ عمار وماذا فعل بأم ياسر وماذا فعل بـ خباب وبغيرهم، وعندها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة مرتين.

لماذا الهجرة إلى الحبشة؟ لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولما كثرت جراحات أصحاب النبي صلى الله من أثر التعذيب الذي لاقوه على أيدي المشركين والمجرمين في مكة؛ هاجروا إلى الحبشة، ومع ذلك، لم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في القتال.

يا شباب الإسلام! ليس من الحكمة مطلقاً أن تقاتل فئة قليلة أمة طاغية عاتية جندت كل طاقاتها وإمكانياتها للصد عن سبيل الله ولمحاربة دين الله، بل وليس من فقه الدعوة ولا من الدين، إنما قد لا ينسحب هذا الحكم على بعض الأفراد، فإن الذي ندين الله به أنه على طول خط الدعوة رأينا من الأفراد من يبذل روحه لدين الله جل وعلا ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لكنني أتكلم في الجملة وبالمجموع، فليس من الحكمة أن تواجه.

وهأنذا أكرر للمرة الثالثة: ليس من الحكمة أن تواجه فئة في صورة ضعيفة لا يملكون فيها شيئاً أمة طاغية جندت كل الطاقات والإمكانيات للصد عن سبيل الله جل وعلا، وإنما في هذه الحالة تتحرك كما تحرك النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة استضعاف، وهأنذا أقول بملء فمي: نحن نعيش الآن مرحلة استضعاف، بل ومرحلة ذل.

يا إخوة! يا من تحرككم الحماسة والعاطفة فقط اعلموا أننا الآن ندفع الجزية، ولا بد من فقه مراحل الجهاد، ولا بد من النظر إلى الأمر نظرة كاملة، إذ إن العاطفة وحدها لا تكفي، وإذ إن الحماس وحده لا يكفي، وأنا أقول ذلك ووالله لا أبتغي به إلا وجه الله، فإن الحركة الإسلامية الآن في أمس الحاجة إلى هداة ودعاة مخلصين لا يجاملون الحركة على حساب منهج الله جل وعلا، إذ لا بد من فهم النصوص العامة والخاصة للربط بينها وبين المناطات الخاصة والعامة ربطاً صحيحاً حتى لا نضع النصوص في غير موضعها، أو نستشهد بالأدلة في غير محلها.

أيها الأحبة الكرام: في هذه المرحلة من الاستضعاف لم يأذن الله لنبيه ولا لأصحابه بالقتال، بل أمر الله عز وجل نبيه بقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:٤٨] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٩] تحرك أنت للدعوة جيش الأمة كلها للدعوة لدين الله! أيها الأحبة: جيشوا الأمة كلها للدعوة لدين الله جل وعلا: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٩].

وبعد مرحلة الجهر بالدعوة اشتد البلاء والإيذاء، وبلغ الإيذاء ذروته بتدبير مؤامرة حقيرة لاغتيال صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، فأمر الله نبيه بالهجرة من مكة إلى المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالهجرة من مكة إلى المدينة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسس للإسلام دولة بكل ما تحمله معنى كلمة دولة: قائد جيش رجال قوة أرض، وهنا بل وهنا فقط أذن الله للنبي والمسلمين معه بالقتال ولم يفرض القتال عليهم، بل أذن لهم في صد العدوان لتأمين الدعوة، فقال جل وعلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:٣٩ - ٤٠] ألم أقل لكم هذه هي الجريمة القديمة الحديثة: أن تقول: لا إله إلا الله: {إلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٤٠ - ٤١] أذن الله بصد العدوان بالقتال لتأمين الدعوة وحماية النفس، ولم يفرض الله القتال على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وفي السنة الثانية من الهجرة -وهذه هي المرحلة الرابعة من مراحل التشريع الجهادي- أمر الله النبي والمؤمنين معه بالقتال، وفرض الله القتال عليهم بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١٦] وهنا أصبح القتال فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه والمؤمنين من بعده إلى أن يرث الله الأرض من عليها، ولا تصدقوا الكذابين والأفاكين والمجرمين الذين أرادوا أن يميتوا الجهاد، فإن الجهاد ما مات ولم يمت ولن يموت بإذن الله، وأسأل الله جل وعلا أن يسعدنا وإياكم برفع علم الجهاد؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ولقد بين الله شرف الجهاد بعد ذلك، وحث الله المؤمنين على الجهاد فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:١٠] هأنذا الآن لو قلت لحضراتكم: أيها الناس هل أدلكم على تجارة يربح فيها صاحب الألف ألفين هل أدلكم على تجارة يربح فيها صاحب المليون مليونين، لحلقت الأعين وأنصتت الآذان.

نعم.

فهذه تجارة مربحة، ولقلتم بصوت واحد: أين دلنا!! هأنذا أدلكم على تجارة أغلى من ذلك وأربح من ذلك، يقول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:١٠ - ١٣] اللهم عجل بالفتح يا رب العالمين!: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:١٣] هل تصدقون الله رب العالمين؟! انتبهوا يا شباب الصحوة! فقد أمر الله بالإيمان قبل الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:١٠] فأثبت لهم عقد الإيمان ابتداءً، ثم قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الصف:١٠ - ١١].

يا إخوة: والله الذي لا إله غيره لن نرى للإسلام دولة، ولن نرى حاكمية تطبق الشريعة إلا إذا حققنا الإيمان ابتداءً، وربينا الناس على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها.

يا إخوة! الإسلام لبنة أساسه العقيدة، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فمحال والله أن نرى ما نحلم به إلا بمثل ما بدأ به المصطفى، وقد بدأ بالتربية بالعقيدة.

لا تتعجب أيها الشاب، ولا تقل لي: أنت تريد منا الآن أن نبدأ بالتربية على العقيدة من جديد، والأمة تضرب بالنعال؟! أقول لك بملئ فمي وأعلى صوتي: لن تجني ثمرة على الإطلاق ولو عشت ألف سنة إلا إذا ربيت من جديد على العقيدة بصفائها وشمولها، وأنت لست مسئولاً عن النتيجة، والله لن يسألك عن النتيجة، إنما سيسألك عن العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:١٠٥] لن يسألني الله عن نتيجة الدعوة، ولا عن نتيجة العمل، وما علي الآن إلا أن أدعو، سواءً اهتدى الناس أم لم يهتدوا، فليس هذا من شأني، بل ولا من شأن غيري، إنما هو من شأن العزيز الحميد.

لقد خاطب الله إمام الدعاة وسيد النبيين بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٧٢] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} [الرعد:٧] {يَا أَيُّهَا ا