للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حد الزاني البكر والمحصن وأقوال العلماء في ذلك]

أيها الحبيب! للعلماء في حد الزاني تفصيل ونزاع، وهذا شرع الله جل وعلا الذي يعرض عنه أهل العلمنة.

الزاني إما أن يكون بكراً أو محصناً، والبكر هو الشاب الذي لم يتزوج، والمحصن هو الرجل الذي وطئ في نكاح شرعي صحيح وهو حر عاقل بالغ، فإن كان الزاني بكراً فحده عند الله -جل وعلا- أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب عاماً عن بلده، أي: ينفى عاماً عن بلده.

وهذا هو رأي الجمهور، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة، فقال: يجلد فقط، ويبقى التغريب للإمام، فإن شاء الإمام -أي: وليَّ الأمر المسلم- غرب وإن شاء لم يغرب.

ولكن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، واستدل الجمهور على ذلك برواية في الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه وقال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي -أي: وائذن لي أن أبين حجتي ابتداءً فأذن له المصطفى فقال الرجل: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا -يعني: كان أجيراً عند هذا- فرأى امرأته فزنى بها، فافتديت ولدي بمائة شاة وخادم -أي: دفعت لهذا الرجل مائة شاة وخادماً لأفتدي ولدي-، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم.

فقال المصطفى: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل، المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.

ثم قال: يا أنيس -صحابي من الصحابة- اغد إلى امرأة هذا -أي: انطلق في الصباح إلى امرأة هذا الرجل- فإن اعترفت بالزنا فارجمها.

فغدا أنيس إلى هذه المرأة فاعترفت بالزنا فرجمها).

فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على هذا الشاب الذي لم يتزوج وقد ارتكب جريمة الزنا بالجلد وبالتغريب، فالبكر حده أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب، أي: أن ينفى عاماً كاملاً.

أما المحصن الذي وطئ في نكاح شرعي صحيح فحده أن يرجم حتى الموت، هذا حكم الله عز وجل، وهذا شرع الله عز وجل، ووالله لو علمنا فضل الشرع ما حِدْنا عنه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩].

وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال: أيها الناس! إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وكان مما أنزل الله عليه فيه آية الرجم، فعقلناها ووعيناها وعملنا بها، فرجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: إنا لا نجد آية الرجم في كتاب الله جل وعلا.

فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله سبحانه.

وفي لفظ الإمام مالك قال عمر: (ووالله لولا أني أخشى أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها في المصحف بيدي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة.

أي: المحصن والمحصنة.

ويعلق الإمام الشنقيطي رحمه الله على هذا الحديث ويقول: وآية الرجم نسخت تلاوتها، وبقي حكمها لم ينسخ، فهي آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.

فهذا حد الزاني المحصن الثيب الذي تزوج زواجاً شرعياً صحيحاً وهو حر عاقل بالغ فترك هذا اللحم الطيب، وذهب ليأكل ذاك اللحم النيء الخبيث.

قال الإمام أحمد: إن الزاني المحصن يجلد ويرجمه، وخالف جمهور أهل العلم، كما خالف أبو حنيفة جمهور أهل العلم كذلك، خالف الإمام أحمد الجمهور فقال: الزاني المحصن يجلد ويرجمه، واستدل على ذلك بحديث في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت، ولكن الراجح أن حديث عبادة كان في أول الأمر ثم نسخ، وبقي حكم الرجم فقط للزاني المحصن، واستدل جمهور أهل العلم على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المحصن فقط ولم يجلده قبل الرجم، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث بريدة أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! طهرني.

وانتبه لهذا الحديث، فقد جاء ماعز بنفسه، لم يأت به بوليس الآداب، ولم يأت به جندي من الشرطة، وإنما جاء يسعى على قدميه إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! طهرني، سبحان الله! لم يرك أحد يا ماعز، فما الذي جاء بك يا ماعز؟ انطلق واهرب يا ماعز! لا؛ فإن هربت اليوم في الدنيا، وإن هربت من رسول الله في الدنيا فلن أستطيع أن أهرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض.

هذا هو الحد الفاصل بين أن نربي أبناءنا على مراقبة القانون الوضعي الأعمى وبين مراقبة الحي الذي لا ينام: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).