للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف أهل الإسلام في مدة الحمل]

كيفية الحمل؛ الله أعلم به، قال بعض العلماء بأن معنى كلمة فحملته: أي: حملت مريم بعيسى وولدته في ساعة واحدة، وهم يستدلون بقول الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:٢٢ - ٢٣] فهم يستدلون بوجود الفاء هنا على أنها في اللغة تحمل معنى الترتيب والتعقيب، وهذا يحمل معنى سرعة الحمل والولادة.

ولكننا نقول لهم: لا.

وإنما حملت مريم بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، وهذا هو رأي جمهور العلماء، ورأي جمهور المفسرين، أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر.

الدليل: إذا كنتم تستدلون بفاء الترتيب والتعقيب، فإننا نقول: فاء الترتيب والتعقيب تأتي في اللغة العربية بحسب الشيء الذي يليه.

بمعنى: أن الله لما تكلم عن مراحل خلق الإنسان قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:١٢ - ١٤] جاءت هنا فاء الترتيب والتعقيب والحديث في صحيح البخاري ومسلم أن بين كل مرحلةٍ ومرحلة أربعين يوماً.

إذاً: فالتعقيب يأتي بحسبه، أنزل الله الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرة، كلمة: فتصبح، فاء الترتيب والتعقيب هنا لا تفيد أنه بمجرد نزول المطر اخضرت الأرض، لا.

بل أخذت وقتاً وهذا الوقت بحسب الشيء الذي يليه.

فمريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، والدليل على ذلك أيضاً: أنها لما ظهرت عليها بوادر الحمل، وكبرت بطنها وثقلت كان يخدم معها في البيت رجلٌ صالحٌ يسمى: يوسف النجار، هذا الرجل الذي اتهم اليهود مريمَ به، قالوا: إن الذي فعل بها هذه الفعلة هو يوسف؛ لأنه هو الذي يوجد معها في بيت المقدس هذا لما نظر إلى بطن مريم، وإلى ثقل بطن مريم، تعجب! وأخذ يفكر في حقيقة الأمر، وكلما سيطر عليه هذا الهاجس وهذا التفكير دفعه بعنفٍ وقوةٍ وشدة لما يعلم من براءتها وطهرها وعفتها وعبادتها ودينها، ولكن سرعان ما يعود هذا الخاطر مرةً ثانية فيقول لنفسه: إذا كانت هي تقيةً ورعة، وأنا أقر بذلك فكيف هذا الحمل؟! كيف كبر بطنها وثقل ويظل يعيش مع هذا الخاطر يدفعه مرة ويسيطر عليه مرات، وفي النهاية ذهب إليها وقال: يا مريم! إني سائلك عن أمرٍ فلا تعجلي عليَّ فيه، فقالت مريم: وكأنها فهمت ماذا سيقول يوسف، قالت: يا يوسف سلني عما شئت ولكن قل قولاً جميلاً؟ فقال لها يوسف مُعرّضاً في الكلام، قال لها يا مريم هل ينبت زرعً بغير بذر؟ وهل ينبت شجر بغير غيث؟ وهل يكون ولدٌ بغير أب؟! فقالت مريم: نعم.

قال لها: كيف؟! فقالت له: يا يوسف! ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر؟! ألم تعلم يا يوسف أن الله أنبت الشجر يوم خلقه من غير غيثٍ ولا مطر؟! ألم تعلم يا يوسف أن الله يوم خلق آدم خلقه من غير أبٍ وأم؟! فنظر إليها قائلاً: أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير!! ولم يستطع بعد ذلك أن يناقشها، أو يجادلها، وتركها إلى حالها.

وانتصرت مريم، ولذا فإن الله جل وعلا يقول: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:٥٧ - ٥٩] من الخالق؟ الله {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٥٨ - ٧٤] سبحان ربي العظيم.

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:٥٨] أفرأيتم هذه النطفة وهذا المني الذي يقذفه أحدكم بشهوة، ويجعل الله منه الولد بقدرته؟ من هذه النطفة ومن هذا الماء تكون أنت أيها الإنسان الكامل المغرور {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:٥ - ٨].

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:٥٨ - ٥٩] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:٦٣ - ٦٤] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:٦٨ - ٦٩].

من الذي خلق؟ الله.

ومن الذي أنزل؟ الله.

ومن الذي ينبت؟ الله.

ألم تعلم يا يوسف أن الله خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر؟! وخلق الشجر يوم خلقها من غير غيث؟! وخلق آدم يوم خلقه من غير أبٍ وأم.

يقول سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ} [البقرة:٢٥٩] رجل مرّ على قرية مهجمة لا أثر فيها لأي حياة، فنظر إلى هذا البناء متعجباً وقال: كيف يحي الله هذا الموات؟! {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:٢٥٩ - ٢٦٠].

أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، وأعلم أن الله عزيزٌ حكيم، قدرة الله لا تحدها حدود {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠].