للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة للأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله]

هنا ملحظ أخير في الآية، وسوف أعلق عليه في الدرس إن شاء الله جل وعلا حينما قال الله لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥] تخيل معي امرأة ضعيفة أنهكها الوضع، وقضى على كل قوةٍ فيها، وفي ساعة ولادتها لا سبب إطلاقاً من أسباب الطعام إلا أن تخدم نفسها، لكنه كما هو معهود أن المرأة التي وضعت لا تصنع شيئاً، وإنما تنام لترى من يغسل لها الثياب، ويقدم الطعام، والشراب وهكذا؛ ولكن هذه المرأة في هذا الوضع لا يمكن لمخلوقٍ أن يأتيها بطعامٍ أو شرابٍ وهي التي ستخدم نفسها بنفسها! والله سبحانه وتعالى يقول لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥] أمر عجيب!! يا مريم اعملي! في هذا الضعف يا رب؟! في هذا المرض؟! وهذه الحالة؟! وأي جذع؟! هل ستهز جذع وردة ريحان، أو فل، أمر يسير ومذلل وسهل؟! ولكن الهز هنا لأي شيء؟ لجذع نخلة! والنخلة: نخلة البلح، وأنتم تعلمون أن أعظم جذع هو جذع النخلة، لا يقوى عنترة بن شداد على هزه، فكيف لامرأة ضعيفة في نفاسها أن تهز الجذع، والمقصود بالهز أن تهزه لينزل الرطب، يعني: لابد وأن يكون الهز قوياً شديداً؛ لأن شدة الهز ستتناسب مع كمية الرطب النازلة {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:٢٥].

هنا ملحظ جميل، لا يظن أحد أن هز مريم الجذع يميناً أو يساراً سينزل الرطب، وإنما هي دعوةٌ من الله للأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك التوكل على مسبب الأسباب.

يا مريم! حتى وأنتِ في هذه الحالة خذي بأسباب الرزق، لابد أن تسعى لرزق الله، وتأخذ بالأسباب، أما أن تجلس لتنتظر الزرق من السماء دون عمل، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إلا إذا وصل الإنسان إلى درجة اليقين التي وصلت إليها مريم حينما دخل عليها زكريا المحراب في الشتاء فوجد عندها فاكهة الصيف، ودخل عليها في الصيف فوجد عندها فاكهة الشتاء، فتعجب قال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:٣٧] هذه درجة يقين عالية جداً ليست لكل الناس، وإنما لابد من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل الحقيقي على رب الأرباب جل وعلا هو أن نأخذ بجميع الأسباب، ولكن لا نتكل على هذه الأسباب؛ لأن الأسباب لا تسعف، ولا تأتي برزق، وإنما نأخذ بالأسباب متوكلين على مسبب الأسباب وعلى رب الأسباب جل وعلا.

ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وخرجه ابن ماجة، والنسائي، وابن حبان، والحاكم والترمذي، وقال عنه الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح وليس في البخاري ومسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) الطائر ينهض في الصباح الباكر ولا يظل نائماً إلى الظهر، فهو الذي يوقظك لصلاة الفجر، في النهار المبكر يترك مسكنه منزله، وعشه ليسعى على رزقه، يغدو من الغدوة من الصباح المبكر، يغدو خماصاً فارغ البطن، خاوي البطن، فيقدر الله له الرزق في أي مكان، فيحصل الطائر على رزقه ويعود إلى عشه وقد تكفل الله برزقه قائلاً: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦].

فعليك أن تأخذ بالأسباب وأن تتوكل بعد ذلك على مسبب الأسباب، أما أن تقول: أنا متوكلٌ على الله دون أخذٍ بالأسباب، فهذا أمرٌ مردودٌ ومرفوض ما فعله سيد الأحباب محمد صلى الله عليه وسلم، ففي ليلة الهجرة أخذ أسباب الحيطة والاحتياط، والأمن والأمان، ولذا فإنه لما علم أنه قد أخذ بجميع الأسباب، ووجد أن الأسباب قد انقطعت يوم أن وصل المشركون إلى الغار، وقال له الصديق: [لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا] يعلم النبي أن الأسباب لا تنجي قال له: (يا أبا بكر! لا تحزن ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

هنا اللجوء إلى مسبب الأسباب؛ لأن الأسباب قد انقطعت حينها، وقد أعيتها الحيل، ولم تستطع أن تنجي محمداً وصاحبه صلى الله عليه وسلم، ولذا فاللجوء هنا إلى الله، إلى مسبب الأسباب، ولذا فعليك أن تأخذ بالأسباب.

يا طالب العلم! ذاكر، واسهر الليل، وحصل الدروس، ثم بعد ذلك توكل على الله، وقل: أنا معتمدٌ على الله وليس على مذاكرتي وتحصيلي؛ لأن من اعتمد على عقله ضلَّ، ومن اعتمد على الناس ذلَّ، ومن اعتمد على ماله قلَّ، ومن اعتمد على الله لا ضلَّ ولا قلَّ ولا ذلَّ.

فخذ بالأسباب، وتوكل على مسبب الأسباب، أما أن تأخذ بالأسباب وتقول: إن الأسباب هي التي ستنجحني، أو بأن الأسباب هي التي سترزقني، لا، وإنما الرزق بيد مسبب الأسباب جل وعلا، يقول ربنا في الحديث القدسي الجليل: (يابن آدم! لا تخشى من ضيق الرزق فخزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً) فعليكم أن تحصلوا الأسباب، وألا تعتمدوا عليها، فإن الرزق والفلاح والنجاح بيد مسبب الأسباب: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:٢٥ - ٢٦].

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم توفنا على الإيمان وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا ما يرضيك من آمالنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، اللهم لا تدع لأحدٍ منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلى شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصٍ إلا هديته، ولا حاجةً هي لك رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.

اللهم كما خلقتنا موحدين اختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم كما خلقتنا مؤمنين فاختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم كما خلقتنا موحدين فاختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم توفنا على لا إله إلا الله، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض.

اللهم اجعل بلدنا مصر بلد الأمن والأمان، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واستغفروه يغفر لكم.

ولا تنسوا التبرع لبيت الله جل وعلا، ادخروا في خزائن الله، ادخروا في خزائن الله وفي بنك حسنات الله، الذي يضاعف الله فيه الحسنات، فإن الحسنة عند الله بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فلا تنسو هذا الخير وهذا الفضل الذي ساقه الله إليكم في الدنيا.

أسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.

وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.