للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السعادة لا تكون في جمع المال]

من الناس من يظن أن السعادة في جمع المال، ولو كان من الحرام، المهم أنه يريد أن يجمع المال بأي سبيل، ولا تعنيه الوسيلة لجمع هذا المال.

وأود أن أقول بدايةً: أنا لا أريد أن أقلل من شأن المال، فقد يكون المال سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال سبب الشقاء في الدنيا والآخرة، المال ما أكرمه إذا حركته أيدي الصالحين والشرفاء، وما أشرف المال إذا عرف المسلم غايته، وعلم أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري، وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم- رجلاً آتاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً) فهذا في أفضل المنازل عند الله جل وعلا.

فالمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، لو عرف المؤمن غاية وحقيقة المال والوظيفة التي ينبغي أن يُسخر لها، فأنفق في سبيل الله جل وعلا، وعلم يقيناً أن ماله الحقيقي هو ما قدم، وبُذِلَ في حياته، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً فقال: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مالك يا بن آدم! تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) ورحم الله من قال:

النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها

...

هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن

قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٦ - ٤٩].

فالمسلم إذا عرف غاية المال واستخدمه استخداماً صحيحاً؛ فالمال يكون حينئذٍ سبب في سعادته في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة؛ إذا عاش الإنسان من أجل المال، وأصبحت غايته في هذه الدنيا أن يجمع المال بأي سبيل وطريق حتى ولو على سبيل الآخرة، يسمع النداء يقول: حي على الصلاة.

ولكنه منشغل بتجارته وبأولاده وبكرسيه ومنصبه، ما استجاب لله جل وعلا، بل من أجل الدنيا والمال غفل عن الآخرة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغفلة، فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).

كم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا همَّ لهم إلا المال والدنيا، إن أمروا بأمر الله ما أتمروا، وإن نهاهم الله جل وعلا ما انتهوا، وإن حد لهم الله جل وعلا حدوداً تجاوزوا وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يخططون ويبذلون، بل وينفقون العقل والوقت والجهد والمال من أجلها.

أيها الأحبة: ليس كل صاحب مالٍ سعيد، وأنتم تقرءون آيات القرآن التي قص الله علينا فيها قصة قارون الذي انشغل الناس بملكه وسلطانه، ومع ذلك لما ذُكر بالله ما تذكر، اتق الله، ورد الفضل إلى الله جل وعلا، واعلم أن ما أنت فيه من نعمة إنما هو بفضل الله جل وعلا عليك، فرد قارون باستعلاء وكبر وقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:٧٨] (إنه فن الإدارة) هذه الكلمة التي يرددها أصحاب المال الآن إلا من رحم ربك، فكانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:٨١].

ولعل البعض منكم قد تابع قصة أغنى امرأة في العالم، فتاة في العشرين من عمرها، إنها: كريستينا أونسيس ابنة الملياردير الشهير أونسيس، لما هلك أبوها ورثت هذه الفتاة مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة؛ المليارات، والأساطيل، والشركات، وتزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقته، ثم تزوجت برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة فطلقها أو طلقته، ثم تزوجت برجل روسي شيوعي، فتعجب الصحفيون في حفل زفافها، وقال لها صحفي: كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية؟ فقالت الفتاة بصدق ووضوح: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه وطلقته، ثم تزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي فتقدمت صحفية لتقول لها: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم.

أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة، ثم وجدوها جثة هامدة في إحدى الشاليهات بدولة الأرجنتين.

فليس كل صاحب مال سعيد -أيها الإخوة- والله لن يذوق طعم السعادة إلا رجل منّ الله عليه بالمال؛ فعرف الغاية والوظيفة لهذا المال، فأنفقه لله جل وعلا في الليل والنهار، اكتسبه من الحلال، وأنفقه فيما يرضي الكبير المتعال.