للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التقرب إلى الله سبب السعادة في الدنيا والآخرة]

صمنا رمضانات كثيرة، ومع ذلك لو سألنا أنفسنا -إلا من رحم الله- هل خرجنا بالتقوى من رمضانات كثيرة صمناها؟ لكان

الجواب

لا.

إلا من رحم الله، لماذا؟ لأننا دخلنا رمضان مدرسة الصوم بغير الشرط الذي به سنحصل التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] لن تخرج من رمضان بالتقوى إلا إذا دخلت رمضان بالإيمان، إن لم تحقق الإيمان فلن تخرج بالتقوى، كم من المسلمين يذهب إلى حج بيت الله الحرام، وعلى عرفات، ورب الكعبة لقد رأيت بعيني على عرفات، من جلس بلباس الإحرام ليلعب (الورق)، فكاد قلبي أن ينخلع، فقلت: يا أخي في هذا اليوم العظيم تقضي هذا الوقت في مثل هذا؟ فقال: إن اليوم طويل، وأنا أريد أن أقضي بعض الساعات في اللعب حتى لا أشعر بالملل، هذا في عرفات، لا يشعر بلذة ولا بعظمة هذا اليوم؛ لأنه ما حقق الإيمان، فلن تخرج بتقوى، ولن تستطيع أن تغض بصرك، وأن تكف عن الحرام، وتمتنع عن الربا، وتفعل شيئاً على الإطلاق إلا إذا حققت الإيمان ابتداءً بالله جل وعلا.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧] حياة سعيدة كريمة، سينشرح صدرك، وييسر الله جل وعلا أمرك، وستشعر بالراحة والطمأنينة وأنت في رحاب الله، وفي قرب من الله جل وعلا، إن أتيت الصلاة، أو قمت الليل، أو أكلت لقمة شعرت باللذة والسعادة، فحقق الإيمان واحرص على العمل الصالح؛ وستسعد بهذه الدنيا، بل وستدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، فإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب من الله، وجنة الطاعة لله، وجنة اللذة بالأنس مع الله جل جلاله، فاحرص على الإيمان والعمل الصالح؛ لتشعر بالسعادة في هذه الدنيا قبل الآخرة.

يحدثني أستاذ جامعي في المنصورة في مصر ابتلاه الله بمرض في القلب، فسافر إلى بريطانيا لإجراء جراحة عاجلة، فلما قرر الأطباء الجراحة وظن أنه ربما يموت، قال: أمهلوني ثلاثة أيام لأرجع إلى أهلي لألقي عليهم نظرة أخيرة، ولأرتب بعض الأمور، فإن قدر الله عليَّ الوفاة أكون مطمئناً، فعاد الرجل وقبل أن يسافر بيوم إلى بريطانيا مرة أخرى لإجراء الجراحة، كان يجلس إلى جوار صديق له في مكتب إلى جوار جزار؛ -أي: رجل يبيع اللحم- ولفت نظره امرأة كبيرة تلتقط العظم وبعض قطع اللحم النيئ من الأرض وتضعه في سلة معها، فتعجب الرجل وخرج ونادى على هذه الأم الكبيرة، وقال: ما تصنعين يا أماه؟ قالت: والله يا بني لقد رزقني الله خمساً من البنات، ما ذاقوا طعم اللحم منذ عام تقريباً، فأنا أجمع لهم بعض هذه القطع.

فبكى الرجل وتأثر ودخل على هذا الرجل وقال: يا أخي هذه المرأة ستأتيك في كل أسبوع وأعطها من اللحم ما تريد.

قالت: لا، أريد كيلو فقط.

قال: بل أعطها اثنين، وأخرج من جيبه مباشرة قيمة لحم لعام كامل مقدماً، فبكت المرأة ولم تصدق، ورفعت يديها تتضرع بالدعاء إلى الله جل وعلا أن يسعد هذا الرجل وهو صاحب القلب المريض.

يقول لي: والله ما إن عدت إلى بيتي إلا وأنا أشعر بهمة ونشاط، حتى لو كلفوني بهدم بيت لفعلت ذلك.

يقول: فلما دخلت قابلتني ابنتي وقالت: ما شاء الله يا أبي أرى اليوم حركتك ونشاطك وجدك زاد، ما هذا؟ أرى وجهك يتهلل، فقص عليها القصة فبكت البنت، وكانت صالحة ورفعت يديها إلى السماء لتدعو الله جل وعلا وتقول: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك، كما أسعدت هذه المرأة وأولادها.

واستجاب الملك، وسافر الرجل بعد إصرار من أهله وهو الذي شَعُر بالتحسن الكامل، وأمام أطبائه في بريطانيا صرخ طبيبه الذي يعلم حالته وقال: ما هذا؟ فنظر إليه وقال: ما الذي حدث؟ قال: من الذي بذل لك العلاج بهذه الصورة؟ وعند أي الأطباء قد تعالجت وطلبت العلاج؟ فبكى الرجل بين يديه وقال: تاجرت مع الله فشفاني الله جل وعلا، بين غمضة عين وانتباهتها.

فاعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنك ستسعد في الدنيا والآخرة؛ إن قربت من الله وعرفت طريقه، وحققت الإيمان به، وسرت على درب الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا هو طريق السعادة يا شباب! هذا هو طريق السعادة يا أصحاب الأموال والمناصب! لن تشعروا بالسعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا سلكتم هذا الدرب: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢]، لتسعد بعد ذلك إن سلكت هذا الدرب سعادة حقيقية أبدية لا تشقى بعدها أبداً في جنات النعيم، {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٥ - ١٠٨] هذه هي السعادة، إنها دار السعادة، ولن تدخل دار السعادة إلا إذا دخلتها في الدنيا، فحققت الإيمان، وسرت على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم.