للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام]

تقول عائشة رضي الله عنها: وفي يوم الإثنين الذي توفي فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم خرج والمسلمون يصلون صلاة الفجر -على الصحيح- فكشف الستر ووقف على باب عائشة رضي الله عنها، فلما رأى الصحابة رسول الله خرج إليهم ووقف على الباب كادوا أن يفتنوا في الصلاة، وفرحوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الصديق أنهم ما فعلوا ذلك إلا لرؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الصديق أن ينصرف إلى الخلف ليخلي مكان الحبيب صلى الله عليه وسلم فلقد أمره الرسول أن يصلي بالمسلمين في مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، وهم الصديق أن يتأخر، فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن اثبتوا، وابتسم الحبيب صلى الله عليه وسلم لما رأى من حسن هيئتهم في الصلاة، وأرخى الستر، وكأن الرسول أراد أن يلقي على أصحابه نظرة الوداع، وكانت آخر نظرة نظرها إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم.

أرخى الستر ودخل إلى بيت عائشة ولا يدري أحد أن اللحظات الأخيرة من عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم بدأت تتلاشى وتنتهي، عاد الحبيب وإذ بملك الموت ببيت الحبيب، انتهى الأجل يا رسول الله! انتهى الأجل يا حبيب الله، ملك الموت الآن في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورسول الله في حجر عائشة بين سحرها ونحرها -رأسه على صدرها صلى الله عليه وسلم- وملك الموت في الدار، واقترب الأجل وانتهت اللحظات الأخيرة من أشرف عمرٍ من عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم.

نعم.

أقبل يا ملك الموت انتهى الأجل كما حدده الله، أقبل يا ملك الموت، ويقبل ملك الموت ليعالج أطهر روح على ظهر الأرض، ليقبض أشرف روح، لينادي على روح المصطفى: يا أيتها الروح الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وربٍ راضٍ عنك غير غضبان، أخرجي يا روح محمد بن عبد الله أطهر روح وأشرف روح {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠].

وتخرج روح الحبيب، تقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله بين سحري ونحري، فرأيته رفع إصبعه إلى السماء وهو يقول: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى.

فعلمت أنه يخير؛ لأنه أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم.

وهكذا أيها الأحباب! خرجت روح الحبيب إلى خالقها، إلى {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٥] إلى جنة الله جل وعلا، إلى النعيم الأبدي المقيم، إلى دار الخلد، مات رسول الله، مات حبيب الله، مات إمام الأنبياء، مات إمام الأصفياء، مات إمام الأتقياء، مات سيد العالمين، مات سيد المرسلين.

فسقطت يده عليه الصلاة والسلام فعلمت أنه مات، فخرجت تبكي وتصرخ، فقابلها عمر فعلم أن الأمر قد وقع، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ولكنه لا يصدق؛ لا يصدق عقله، ولا يصدق هذه الحقيقة أبداً، فخرج ورفع سيفه في وسط الناس، في وسط هذه الجموع الملتهبة، في وسط هذه الجموع التي تصرخ وتبكي، وقال: [والله إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، فوالله ما مات رسول الله، لقد ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران إلى لقاء الله، وغاب عن قومه أربعين يوماً وعاد مرة ثانية، ورسول الله ما مات وسيعود، وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات].

وعمر بن الخطاب يصيح ويصرخ، وسمع علي بن أبي طالب الخبر فشلت قدماه، وقعد على الأرض ولم يستطع القيام، وسمع عثمان بن عفان الخبر فخرس لسانه، وكان يذهب به ويؤتى به وهو لا يتكلم ولا ينطق، وأذهل العالمون - أذهل الناس جميعاً- وأذهل أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم.

وأيد الله المنصور أبا بكر رضي الله عنه عاد من منزله بالسنح، وكان في يوم الإثنين قد استأذن رسول الله لما رآه قد طل عليهم من وراء الستر استأذنه أن يذهب إلى بيته بالسنح إلى زوجه هناك، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الخبر عاد إلى بيت الحبيب -إلى بيت عائشة - وعمر بن الخطاب يصرخ في هذه الجموع، وعثمان بن عفان لا ينطق ولا يتكلم، وعلي جالس في الأرض لا يقوى على القيام، فلم يلتفت الصديق إلى شيء ودخل على جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم، اليوم تدخل على جثمان الحبيب يا أبا بكر، وقد كنت في الأمس القريب تدخل على سيد الخلق وحبيب الخلق، وأنت اليوم تدخل على جثمان مسجى يا أبا بكر.

فدخل الصديق إلى جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم وكشف الغطاء عن وجهه، وجلس على ركبتيه أمام الحبيب فقبله بين عينيه وهو يبكى رضي الله عنه وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم يا رسول الله! ثم بكى الصديق رضي الله عنه وقال: يا حبيبي! لقد انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، جللت يا حبيبي عن البكاء، واصفياه! واخليلاه! وانبياه! وخرج الصديق رضي الله عنه الذي أيده الله بمدد من عنده، وثبته الله عز وجل، خرج وعمر بن الخطاب يصرخ فقال على رسلك يا عمر! أمسك يا عمر! أمسكوا أيها الناس! وعمر يأبى إلا أن يتكلم، يصرخ في الناس، ويقول: [من قال بأن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا].

فلما رأى الناس الصديق رضي الله عنه يريد أن يتحدث انصرف الناس عن عمر، وأقبلوا على أبي بكر رضي الله عنه، فوقف الصديق رضي الله عنه ليعلن الحقيقة الكبرى في هذا الوجود كله: [أيها الناس! أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]].

يقول أبو هريرة: [فأخذها الناس من أبي بكر وكأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وكأنهم لم يعلموا أنها أنزلت، فانطلق الناس جميعاً وهم يرددون هذه الآية، كلٌ مشى وهو يتلو قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]].

يقول عمر بن الخطاب: [فلما سمعتها، وعلمت أن رسول الله قد مات عقرت -وقعت على الأرض- ولم تستطع قدماي أن تحملاني، وعلمت أن رسول الله قد مات].

وكفن الحبيب صلى الله عليه وسلم في ثيابه، وقد اختلفوا هل نجرده من ثوبه، أم نغسله في ثوبه؟ فسمعوا منادياً -كما ذكرت جميع كتب السير- سمعوا منادياً ينادي: أن غسلوا رسول الله في ثوبه، لا تجردوا رسول الله أبداً، فغسلوا الحبيب صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وكانوا يصبون عليه الماء وعلي رضي الله عنه يغسله صلى الله عليه وسلم من على الثوب لا تمس يده جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم.

وغسل الحبيب، وكفن الحبيب، ودفن الحبيب في غرفته التي مات فيها في حجرة عائشة رضي الله عنها، ويا له من شرفٍ لـ عائشة رضي الله عنها أن يدفن الحبيب في غرفتها وفي حجرتها وفي بيتها، ودفن الحبيب، وصلت عليه الملائكة وصلى عليه الصحابة وأهل بيته الأقرب فالأقرب، ولما صلي عليه ودفن وسمعت أصوات المساحين في الليل وهي تهيل التراب على جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم صرخ نساء النبي، وضجت المدينة بالبكاء، وضجت فاطمة رضي الله عنها وبكت وهي تقول: [وا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه أجاب رباً دعاه! وا أبتاه إلى جبريل ننعاه! وا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، فنظرت فوجدت أنس بن مالك رضي الله عنه، فنظرت إلى أنس وهي تبكي وتقول: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!].

وحان وقت أول صلاة فأذن بلال رضي الله عنه، فلما جاء عند قوله: أشهد أن محمداً رسول الله بكى بلال رضي الله عنه ولم يستطع أن يكمل الأذان فبكى الناس، وضجت المدينة بالبكاء.

وهكذا أيها الأحباب! مات الحبيب صلى الله عليه وسلم.

والله يا رسول الله! إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا رسول الله لمحزنون، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥].

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.