للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أشياء مناقضة للصبر]

من الأشياء المقابلة والمعاكسة للصبر: عملية الاستعجال: كثير من الناس وحتى الدعاة إلى الله يستعجلون الثمرة، يريدون من الناس أن يلتزموا بالإسلام بسرعة، ويريدون من الناس أن يتمسكوا بسرعة، ويريدون من الناس أن يتركوا المنكرات بسرعة وبدون صبر على هؤلاء الناس، وهذا لا يحصل، بل إنه حتى لو التزم هؤلاء الناس فإنهم يريدون منهم أن يترقوا في مدارج العلم ومدارج التربية بسرعة، يريد منه أن يصل في لحظة من مرحلة ترك المعصية، والبعد عن المنكرات إلى مرحلة العلم، وإلى مرحلة التصورات الصحيحة، وإلى مرحلة العمل للإسلام بسرعة كبيرة، يريد أن ينقله نقلة بعيدة في وقت قصير جداً؛ هذه العملية دون صبر لا تصلح، ولذلك ترى ثمرات هؤلاء العاملين الذين عدموا الصبر في هذه المواقف ثمراتٍ ناشفة غير ناضجة لماذا؟ لعملية الاستعجال المنافية للصبر.

أحياناً الإنسان يتسرع فيحكم على الناس بالخطأ، وأحياناً يتسرع فلا يعذرهم، ولو أنه صبر لكان خيراً له؛ حتى طالب العلم يحتاج إلى الصبر في أشياء كثيرة، أحياناً الإنسان يتسرع فيأخذ علماً من العلوم وهناك ما هو أهم منه، فلا بد أن يصبر ويتريث، وأحياناً يقرأ الإنسان ثم يزهق ويمل فلا بد أن يصابر نفسه.

كيف وصل العلماء الكبار إلى حالات عجيبة من الصبر على طلب العلم؟ كيف كان بعضهم له خمسة دروس في اليوم والليلة متواصلة غير وقت الطلب الخاص به الذي يبحث فيه بنفسه ويقرأ فيه، كما كان النووي رحمه الله، فقد كان معه عشرة دروس متواصلة، وكذلك الشنقيطي رحمه الله كان له أكثر من خمسة دروس متواصلة غير وقت الطلب الخاص به، وكيف صبر علماء الحديث، على طلب الحديث وقد كانوا يسافرون في طلب الحديث الواحد الشهور حتى يصلوا إلى مبتغاهم، وهذا الشيخ ناصر رحمه الله من علماء الحديث المعاصرين كان يجلس في المكتبة الظاهرية ليبحث عن حديث، فتراه ينتقل من رف إلى رف يجلس على السلم قرابة خمس ساعات متواصلة وهو يبحث في المجلدات، ويقرأ المخطوطات وهي بهذا الخط الدقيق الصعب القراءة وهو يبحث ليصل إلى نتيجة ما.

تخيل: يجلس على السلم خمس ساعات متواصلة وينظر في الرفوف، ويسحب كتاباً وينزل آخر، ويفتح المخطوطة ويدقق، ويقرأ قراءة تكاد العين تعمى منها فكيف وصل هؤلاء إلى هذه المرتبة؟ لم يصلوا إليها إلا بالصبر الصبر على طلب العلم ومجاهدة النفس.

اصبر على ما كرهت تحظ بما تهوى فما جازع بمعذور

إن اصطبار الجنين في ظلم الـ أحشاء أفضى به إلى النور

والمسلم الداعية الذي لا يعرف الصبر داعية فاشل لا يعلم سنن الله تعالى، فإذا استحكمت الأزمات، وتعقدت في حبالها، وترادفت الضوائق، وطال الليل، فالصبر على الهدى والحق هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط والهداية الواقية من القنوط.

وكذلك أيها الإخوة: عاش السلف -رحمهم الله- في أجواء التربية، يتنقلون من مرحلة إلى مرحلة، وكان رديفهم الصبر دائماً، ولذلك وصلوا إلى هذه المرحلة العالية، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [وجدنا خير عيشنا بالصبر] أحسن العيش أحسن أوقات الحياة التي عشناها كانت بالصبر؛ فلا بد من هذا الدواء الذي أوله مر، ولكن في النهاية يكون حسن الطعم جداً.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم هذا الأمر العظيم من أمور الدين، وأن يجعلنا من الصابرين المصابرين المصطبرين في ذات الله تعالى، وأن يجعل صبرنا لله وبالله ومع الله.

هذا آخر ما تيسر ذكره من الكلام على مسألة الصبر، ومن شاء الزيادة فليرجع إلى كتاب: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وكذلك تكلم ابن تيمية رحمه الله كلاماً جيداً على الصبر في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى، وكذا تكلم ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن منزلة الصبر، وغيرهم من علماء السلف، فمن شاء الزيادة فليرجع إلى مثل هذه المراجع وغيرها، وأفضل ما يمكن للإنسان أن يعلم به حقيقة الصبر هو: المعايشة اليومية للمشاكل التي تواجهه مشاكل كثيرة جداً مشاكل اجتماعية مشاكل مع نفسه مع الشهوات مصارعات لهذه الشهوات، مع الناس، في الدعوة إلى الله، امرأة تصبر على الحجاب وزوجها يثنيها عنه، وامرأة تريد أن تطلب العلم وتريد أن تجعل من بيتها بيتاً مستقيماً وقد لا توفق بزوج صالح، فلا بد أن تصبر نفسها على هذا البلاء الذي حل بها، الإنسان الداعية في جميع مواقفه، والمجاهد الذي يجاهد في سبيل الله يحتاج إلى الصبر.

فأحسن قضية يمكن أن يتعلم الإنسان فيها الصبر قضية الممارسة والمعايشة اليومية لأحداث الحياة، ولا تكاد تتأمل حادثة من حوادث الحياة التي تمر بك إلا وتحس بأن الصبر هو المفتاح لما أغلق، وهو الدواء والحل لجميع المشاكل التي تواجهها.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله أولاً وآخراً.